النهار

تونس وتحدّي الأرقام
أسامة رمضاني  
المصدر: النهار العربي
لا شيء أفضل من الأرقام لتقديم فكرة صحيحة، من دون تهويل أو تهوين، لظاهرة الهجرة من تونس أو إليها، إذ يتواصل نزيف الكفاءات. وهجرة المهندسين بالذات، بمن فيهم المختصون في الإحصاء، لا تتوقف. ولا بد اليوم من تقييم علمي لما آلت إليه الأوضاع.
تونس وتحدّي الأرقام
احصائبات تونس تفيد بانخفاض معدل الاجور بشكل متواصل
A+   A-
يبدو أحياناً أن للكثير من التونسيين مشكلة مع الأرقام أو بالأحرى مع عمليات الحساب. رغم ذلك فإن لدى الجميع وعياً عميقاً بأن الأرقام هي التي سوف ترسم لاقتصاد البلاد ملامح الطريق نحو الانتعاشة، سواء طال الزمان أم قصر.

في الكثير من المعاملات اليومية ليست الأرقام دوماً بالدقة والوضوح اللازمين. أتذكر كيف هاتفني صديق أجنبي قبل سنوات عديدة ليقول لي إنه اطلع على تقرير صحافي تونسي في مناسبة عيد الشجرة حول الآلاف المؤلفة من الأشجار التي تقول السلطات إنها تولت زراعتها. قال لي مازحاً يومها: "لا يمكن أن تكون أرقامكم هذه صحيحة إلا إذا ما توسعت مساحة الأراضي المزروعة إلى عرض البحر الأبيض المتوسط".

إضافة إلى عدم دقة وسائل الإعلام في استعمالها الأرقام، هناك نوع من الفوضى في طريقة تحديد التونسيين للقيمة المالية للأشياء خلال حديثهم اليومي. فكثيراً ما يختلط الأمر بين الألف والمليون وبين المليون والمليار. والسبب في ذلك أساساً أنك لا تدري إن كان مخاطبك يحدد قيمة المبالغ المالية التي يتحدث عنها بالدينار (وهو العملة الرسمية للبلاد، وهي تساوي تقريباً ثلث دولار أميركي) أو بالمليم (وهو جزء واحد من ألف جزء من الدينار).

يحتسب الكثيرون، بمن فيهم مسؤولو الدولة والعديد من الإعلاميين، في كلامهم، المبالغ بالمليم. والمفروض أن يحتسبوها بالدينار. نتيجة لذلك تصبح الألف دينار "مليوناً" وتصبح المليون دينار "ملياراً". ويسهون عن الإشارة إلى أن حساباتهم بالمليم وليست بالدينار.

من تبعات هذا الالتباس أنه يوحي بقيمة للمبالغ أكثر من حقيقتها. فالانطباع الذي يخلقه "الألف" غير الانطباع الذي يخلقه "المليون" أو "المليار". والأمثلة على هذه الضبابية الرقمية تتكرر كل يوم، وآخرها نقاش إعلامي صادفته هذه الأيام حول تكلفة عملية إحصاء عدد السكان والمساكن التي بدأ التمهيد لإجرائها منذ أيام معدودة.
 
الكلفة التقديرية لـ"التعداد الوطني للسكان والسكنى" تبلغ 89 مليون دينار (أي حوالي 28 مليون دولار). ولكنها تصبح 89 ملياراً (من دون تحديد للوحدة النقدية) في كلام الإذاعات والمنصات الرقمية.

يعزز ذلك نوعاً ما موقفُ بعض المعلقين الذين يلحون على أن هذه الكلفة (سواء احتسبت بالمليون أم بالمليار) هي كلفة مشطة. ولم يكن غريباً أن يبلغ الأمر بالبعض حد التخمين — من دون تقديم أي قرائن ملموسة لذلك — بأن هناك شبهة فساد مالي وراء ذلك.

هناك ما يشبه الاستعداد الفطري لدى التونسيين للاعتقاد أن الفساد والرشوة مستشريان في الإدارات الحكومية. وهناك ميل إلى توقع ضلوع كبار المسؤولين في ممارسات الفساد المالي، ولو أن أكثر مظاهر الرشوة والفساد انتشاراً في الواقع هي ما يسمى "الفساد الصغير"، أي الرشى النقدية الصغيرة التي يشترك فيها المواطن العادي مع الموظف البسيط. وذلك موضوع آخر.

قد لا يتصور عامة الناس الكلفة الاقتصادية التي يتطلبها إنجاز التعداد باعتباره أكبر عملية إحصائية تنجزها الدولة التونسية وأكثرها تعقيداً.

سوف ينطلق الإنجاز الميداني الفعلي لهذا الإحصاء قبل نهاية العام الحالي بمشاركة الآلاف من الموظفين. نظمت تونس منذ سنة 1921 ما لا يقل عن 12 عملية من هذا النوع، من بينها خمس عمليات تمت بانتظام كل عشر سنوات منذ 1975.

الإحصائيات الرسمية تبقى مرجعاً أساسياً لتحديد أوضاع البلاد وتوضيح السبل أمام المسؤولين عن شؤون التصرف والتخطيط في الدولة.

تبقى المعطيات الإحصائية بمثابة الفحص "بأشعة أكس" لحالة الاقتصاد والمجتمع. هو عمل لا يجامل ولا يسعى لإنكار وجود السلبيات. فمن دون تشخيص دقيق ومتجرد للأوضاع لا يمكن للدولة أن تخطو ولو خطوة نحو العلاج الصحيح.

هناك العديد من المؤشرات المطمئنة، لكن الاستطلاعات الرسمية تسلط الضوء أيضاً من دون مجاملة على ظواهر اجتماعية مثيرة للانشغال، من بينها مثلاً استطلاع ميداني أجراه المعهد الوطني للإحصاء (الحكومي) خلال الأشهر الأخيرة. أظهر هذا الاستطلاع أن "ظاهرة العنف المسلط على المرأة متفشية في المجتمع التونسي"، إلى حد أنها شملت قرابة 85 في المئة من النساء اللاتي تراوح أعمارهن بين 15 و74 سنة "على الأقل مرّة منذ سنّ الخامسة عشرة".
 
قد تكون مثل هذه الأرقام صادمة، ولكنها مفيدة من حيث إنها تبرز خطورة المشكلة وتضع كل الأطراف المعنيين أمام مسؤولياتهم. وفي كل حال من الأحوال لا يمكن لأحد بعد الاطلاع على نتيجة الاستطلاع الزعم أنه لم يكن يدري أن هناك حيفاً مسلطاً على المرأة من المجتمع.

أظهر استطلاع آخر أن أكثر من 68% من التلاميذ في تونس بين 7 و14 سنة لا يمتلكون المهارات الأساسية في مادة الحساب.

أرقام مثل هذه توفر أرضية مفيدة للانطلاق في الإصلاح التعليمي من أجل الأجيال الصاعدة على أسس صحيحة دون أوهام.

لا شيء أفضل من الأرقام لتقديم فكرة صحيحة، من دون تهويل أو تهوين، لظاهرة الهجرة من تونس أو إليها، إذ يتواصل نزيف الكفاءات. وهجرة المهندسين بالذات، بمن فيهم المختصون في الإحصاء، لا تتوقف. ولا بد اليوم من تقييم علمي لما آلت إليه الأوضاع.

ليس هناك أفضل من الأرقام لتقييم التطورات الديموغرافية العميقة الحاصلة في المجتمع، بما في ذلك من تراجع لنسب الزواج والإنجاب وما يعنيه ذلك من تهرم سكاني.
 
تقول بيانات المعهد الوطني للإحصاء مثلاً إن معدلات الخصوبة لدى المرأة نزلت من ستة أبناء في السبعينات إلى أقل من اثنين حالياً، فيما ارتفع معدل سن الزواج لدى المرأة من 24 عاماً منذ أربعة عقود إلى 30 عاماً حالياً.

وعلى أساس التوقعات الديموغرافية يمكن للدولة أن تخطط للاستجابة لحاجات البلاد على المديين القريب والبعيد وتكييف سياساتها الاقتصادية والاجتماعية.

يترقب الناس إصدار المعهد الوطني للإحصاء مؤشرات النمو والبطالة والتضخم والفقر والأمية من أجل استقراء آفاق الحاضر والمستقبل.

ولما يعرف المرء أن البطالة تشمل أكثر من 40 في المئة من الشباب (بين 15 و24 سنة) وكذلك ثلث متخرّجي الجامعات، فهو يفهم بسهولة أن تونس لم تتخلص بعد من أبرز عوامل عدم الاستقرار التي كانت قد أوقدت موجة من التظاهرات الاحتجاجية العارمة خلال عامي 2010 و2011. الوقت اليوم طبعاً غير ذلك الوقت، لكن الأرقام تشير إلى أن البلاد لا تزال تواجه خطر المطبات الاجتماعية بما يفسر تردد السلطات في اتخاذ الإجراءات التقشفية التي يحتاجها الاقتصاد.

ولما يعرف المرء أن معدل أجور التونسيين لا يتجاوز 300 دولار في الشهر بإمكانه أن يفهم لماذا يتركز اهتمام معظم التونسيين اليوم على تحسين مستواهم المعيشي، ويقل اهتمامهم بالسياسة التي تحولت في كثير من الأحيان إلى ظاهرة نخبوية محضة.

هناك سيطرة محمودة على نسبة التضخم، لكن لما يعلم المرء أن نسبة نمو الناتج القومي الخام في تونس خلال الربع الأول من السنة لم تتجاوز 0,2 في المئة، فهو يفهم بكل تأكيد أن طريق الخروج من الأزمة الاقتصادية لا تزال طويلة.

وتوافر الأرقام لا يضمن نجاح الساسة في معالجة الهنات التي تعكسها. منذ عام 2011 وحتى قبله تواترت المعطيات التي أبرزت بوضوح انخرام التوازنات التنموية بين الجهات. لم تنجح الحكومات المتعاقبة في تصحيح هذا الوضع. ولا شيء يوحي بأن هناك تقدماً ممكناً في الأفق.

أولوية المسؤولين عن العمليات الإحصائية هي ضمان دقة أرقامهم والحفاظ على مصداقيتها.

في أي فترة تاريخية، لا يمكن منع السياسيين والإعلاميين من تأويل الأرقام طبقاً لمناظيرهم. لكن مهما كانت الاعتبارات لا بد من أن تبقى العمليات الإحصائية ذاتها بمنأى عن التأثيرات السياسية وعن الضغوط  الحقيقية أو المفترضة التي يمكن أن يمارسها صاحب القرار في ظل أي نظام. في الوقت نفسه لا بد أيضاً من أن يجتنب النشطاء والمعارضون السياسيون إقحام المنظومة الإحصائية في خلافاتهم مع السلطة.

والشك في صحة الأرقام والمؤشرات الأساسية، إذا ما تسرب إلى الأذهان، سوف يخلط الأوراق في الداخل، كما سيخلق حالة من الريبة تربك مخططات المستثمرين وسائر الشركاء الأجانب.

في نهاية التحليل تعكس الأرقام، مهما كان هامش الخطأ والتأويل، حقيقة التحديات التي تواجهها تونس ومدى نجاح سياساتها أو إخفاقها من حقبة إلى أخرى، وهي تحديات يستطيع التونسيون رفعها إذا ما تعلقت همتهم فعلاً بذلك وتوجهت سياساتهم نحو تحقيق الإصلاحات التي تحتاجها البلاد. عندها فقط سوف تتغير البيانات الإحصائية وتتطور دلالاتها، فالأرقام ليس لها رياء الكلمات.
 

اقرأ في النهار Premium