يومان بعد المجزرة التي ارتكبتها إسرائيل وأودت بحوالي أربعين مواطناً فلسطينياً في رفح، أتى خبر وصول الدبابات الإسرائيلية إلى وسط المدينة ليعكس حراجة الموقف على الأرض بالنسبة إلى حركة "حماس" والفصائل الفلسطينية المقاتلة معها. فقد باشر الجيش الإسرائيلي عملية التوغل مباشرة بعد انهيار آخر جولات التفاوض على الهدنة وتبادل الرهائن والأسرى، وأدخل في العملية مجموعة من ألوية المشاة والكوماندوس باعتبار أن القتال سيجري من شارع إلى شارع، ومن مبنى إلى مبنى وسيحتاج أكثر ما سيحتاج إلى قوات مشاة تسير جنباً إلى جنب مع الدبابات الثقيلة التي تخترق العوائق المنتشرة في كل مكان.
وتخوض الفصائل الفلسطينية في رفح، من جهتها، آخر معاركها الكبرى ضد الاجتياح الإسرائيلي للقطاع. ومن الطبيعي أن التقدم الإسرائيلي الذي قد ينتهي خلال فترة قصيرة نسبياً بشبه سيطرة على ما فوق الأرض في رفح، لن ينهي القتال في بقية أرجاء القطاع من الشمال إلى الجنوب. فالحرب الإسرائيلية التي بدأت مباشرة بعد عملية "طوفان الأقصى" قامت على قاعدة القصف العنيف، والتوغلات السريعة والجزئية في مختلف المناطق، ما يفسر إلى حد بعيد نشوب معارك في أنحاء مختلفة من القطاع، مثل مخيمي جباليا ودير البلح وعدد من أحياء مدينة غزة، حيث حافظت الفصائل الفلسطينية على خلايا مقاومة مهمة نسبياً، استطاعت في مراحل مختلفة خلال الأشهر الماضية انتزاع المبادرة من الجيش الإسرائيلي، باستدراجه إلى معارك شوارع ومبان وأنفاق شديدة التعقيد والخطورة، الأمر الذي كشف صعوبة السيطرة على القطاع، واستحالة إنهاء الحرب في المدى المنظور. فالطرفان لا يسعيان إلى إنهاء الحرب في القريب العاجل، كون كل منهما يضع في حساباته إمكان أن يفوز بالنقاط لا بالضربة القاضية التي تبدو بعيدة المنال من جانب إسرائيل، ومستحيلة من جانب الفلسطينيين.
فمن جهة إسرائيل، يعرف المستوى العسكري أن الضربة القاضية تحتاج إلى حرب طويلة قد تمتد إلى ما بعد نهاية العام. أما بالنسبة إلى الفلسطينيين فإن الرهان هو على أن تنجح الضغوط الدولية الشديدة على إسرائيل في إيقاف الحرب قبل أن يتم تحييد القادة الكبار وعلى رأسهم يحيى السنوار ومحمد الضيف، وقبل أن تتم السيطرة على مجمل البنى التحتية العسكرية التي لا تزال تمثل أكبر خطر على الجيش الإسرائيلي.
وفي حسابات حركة "حماس" أيضاً، أن تشتد ضربات الفصائل الإيرانية في المنطقة في المرحلة المقبلة، وأن تلتهب الجبهة اللبنانية مع "حزب الله" التي تمثل الثقل الأهم بمواجهة إسرائيل، خصوصاً أن الحرب بنتائجها ستقوم على صورة النهاية. ونعني بصورة النهاية أن المهم للطرفين يتعلق بكيفية تقديم النهاية، أكان لمصلحة إسرائيل أم لمصلحة "حماس".
في حالة إسرائيل، تحتاج إلى نصر واضح وحاسم يقوم على إسقاط آخر القلاع الفلسطينية، والاستدارة لإنهاء العمل في الوسط والشمال وإعلان سقوط حكم "حماس" في غزة. أما بالنسبة إلى "حماس" فيكفي أن ينجو رأس الهرم المتمثل بيحيى السنوار ومحمد الضيف ومعهما عشرات الرهائن الإسرائيليين، وأن يتواصل القتال في عدد من مربعات المقاومة، لكي تعتبر الحركة ومن خلفها المحور الإيراني أن الانتصار تحقق. ومن هنا يمكن أن نتصور أن القيادة العليا للفصائل الفلسطينية في غزة ستعمل في مرحلة قصيرة على تجميع كل الرهائن في أمكنة قريبة من أمكنة وجود القادة الكبار المشار إليهم. فإذا سقطت مدينة رفح فسيحين أوان التفاوض على من بقي حياً من الرهائن، تزامناً مع ارتفاع حدة تظاهرات الأهالي في تل أبيب.
في حال سيطرة إسرائيل على مدينة رفح يمكن توقع انطلاق جولة مفاوضات جديدة. لكن سيبقى من المهم التفكير بمرحلة ما بعد الحرب. هنا الصعوبة الكبيرة مع إصرار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على التهرب من البحث في اليوم التالي، خصوصاً أن إسرائيل عاجزة عن الإمساك بقطاع غزة لمدة طويلة. كما أنه يستحيل أن تتولى حكم القطاع بسكانه الذين يتجاوز عددهم مليونين ونصف مليون شخص. أما حركة "حماس" فلم تعد قادرة على حكم غزة. ستضطر للخروج عسكرياً من القطاع، أو مع مرور الوقت مواجهة خطر التصفية الشاملة.
انطلاقاً مما تقدم، يمكن القول إن الطرفين عالقان في عنق الزجاجة. فمأزق إسرائيل حقيقة لا يمكن التنكر لها، ومثله مأزق حركة "حماس" التي يتآكل وجودها يوماً بعد يوم. كلاهما وصلا إلى حائط مسدود، ويحتاجان أكثر ما يحتاجان إلى تلمس المسار السياسي من أجل وقف حمام الدم.
أين العرب من كل هذا؟ بكل بساطة ووضوح يكتشف المحور العربي حجم التقاطع الموضوعي بين إسرائيل و"حماس" في ما يتعلق بحاجتهما لمواصلة القتال طمعاً بصورة النصر النهائي. أما الخاسر الأكبر فهو بالطبع أبناء غزة، وبدرجة أقل أبناء الجنوب اللبناني الذين يدفعون ثمن فرض الأجندة الإيرانية التي أدت حتى الآن إلى تدمير عشرات القرى اللبنانية الآمنة بلا طائل.