يصر أقراني - من أنجبوا أو المتطلعون للإنجاب - على تنشئة أطفالهم بطريقة مختلفة مقارنة بأهالينا، حين لم تدخل حالاتنا وصحتنا النفسية المعادلة التربوية أصلاً، ولم يُعترف بها أسوة باحتياجاتنا من طعام وشراب وملبس. قد يكون أقراني – على الأقل، هنا في الخليج - أول جيل يُقبل بهذه الجدية على طرق التربية الحديثة، مثل "التربية اللطيفة"، ويستعين بعلم النفس لعلاج المشكلات السلوكية، ويولي أهمية قصوى للأمراض والاضطرابات النفسية لدى الأطفال، بينما كان الشائع "على زماننا" أن يُتهم الطفل بـ"الدلال"، أو يبصق عليه المشايخ.
الأمر ذاته حدث في الغرب – قبلنا بسنوات طويلة - فثارت أجيال من خلال تربيتها صغارها على الحرمان والإنكار الذي عوملت به صحتها النفسية في طفولتها، وقررت تصحيح هفوات الماضي. وهنا أعتقد أن بإمكاننا استقاء الدروس والعبر من تجربتهم.
ترى آبيجيل شراير، مؤلفة كتاب "العلاج السيئ: لماذا الأطفال لا ينضجون؟"، أن الهشاشة النفسية الهائلة التي يبديها الأطفال والمراهقون في المجتمعات الغربية مردها تحديداً إلى ذلك الاهتمام بصحتهم النفسية.
أصبح الآباء والأمهات يقتادون أطفالهم إلى العلاج النفسي بوتيرة مبالغ فيها، حيث تُضخم أتفه المشكلات العابرة جداً، والمنبعثة غالباً من المرور بمراحل النمو، وعوضاً عن تركها، يتم التركيز عليها، ومعاينتها، وإعطاؤها المسميات والتشخيصات المخيفة، وشرحها كذلك لعقل الطفل المحدود. ولأنه طفل، فلن يعي كم ومتى يكون الحزن/القلق/الغيرة/خيبة الأمل/الغضب طبيعياً، وسيعتقد أنه موبوء نفسياً، ويتحول بالتالي من طفل يكتشف الحياة، فيُخطئ ويحتار ويتقلّب ويتألم ويُحرج، إلى "مريض" يجب علاجه.
وتحت هذه العدسة المسلّطة على كل شعور يعايشه، وفي ظل الهوس باللجوء إلى الطب النفسي لحل ما يعتقد أنها "أزمات" تواجهه، سيبدأ الطفل التصديق أنه هش، ضعيف، وقابل للكسر. وهذا ما يقاسيه الغرب اليوم، فنكتة سوداوية قاتمة، أو رأي مغاير حيال المثلية أو لا ثنائية الجندر، بإمكانه "تدمير" نفسية أي شاب أو مراهق.
ببساطة، لقد أخفقوا حين تحولوا من أجيال لم تلتفت مطلقاً إلى مشاعر صغارها إلى جيل ما انفك يسألهم عن مشاعرهم المتغيّرة ويبروزها.
ولا أجد أبلغ من اختتام مقالتي بقصة لم أصادفها في كتاب شراير، بل في موقعها الرسمي.
كتبت أم عن اقتحام مختبر الكمبيوتر في مدرسة طفلتها الابتدائية، وتخريبه تخريباً طفيفاً جداً. بالطبع، وجدت الطفلة إثارة دراماتيكية بالغة في الحادثة، وعادت من المدرسة راغبة في جمع الأدلة، وإيجاد الجناة.
ولكن في اليوم التالي، عادت ابنة الـ9 سنوات وهي تتحدث عن شعورها بـ"الصدمة والانتهاك" بسبب تخريب المختبر. لماذا؟ لأن المدرسة أرغمت الأطفال على لقاء معالج نفسي لـ"التعامل" مع الحادثة التافهة وكأنما كانت حرب البسوس!
ولتتيقنوا من حماقة تضخيم مشاعر الأطفال وتهويلها، تقول والدتها إنها ما إن ذكّرتها بحماستها السابقة، حتى نزعت الصغيرة عنها – بكل يسر طفولي - "الصدمة والأذى النفسي العميق" المزعومين، وعادت تتقمص دور "شيرلوك هولمز".