هذه لحظة حرجة وخطيرة لأوروبا يسير فيها قادة أوروبيون بخطوات متزامنة ومتلازمة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، نحو مواجهة عسكرية مباشرة لا يمكن الجزم بأنها لن تتطور إلى حرب نووية. عنوان الرسالة البريطانية والفرنسية الرئيسي هو أنه ممنوع على بوتين الانتصار في الحرب الأوكرانية، لأن ذلك يهدد مصير أوروبا برمّتها. الرهان الأساسي هو على أن الرئيس الروسي لن يجرؤ على توجيه ضربات تكتيكية نووية في داخل الأراضي البريطانية أو الفرنسية رداً على سماح لندن وباريس لكييف باستخدام الصواريخ الغربية لضربات في عمق الأراضي الروسية، كما يتوعّد. فتلك ستكون نهاية روسيا، بحسب القيادتين البريطانية والفرنسية، وبوتين في رأيهما لن يغامر. لكنه سيغامر، يقول مطّلِعون عن كثب على تفكير بوتين وشخصيته، لأن المسألة وجودية له ولأنه لا يستطيع تجاهل سياسة الاستفزاز والاستنزاف ولا العودة إلى الوراء بعدما رسم الخطوط الواضحة في الرمال.
أوروبا في خطر وشيك تقرع حرب كبيرة أبوابها، والأسبوعان المقبلان سيكونان في غاية الدقة، بدءاً من موعد مرور 80 سنة على يوم الانتصار D-Day في النورماندي الأسبوع المقبل في 6 حزيران (يونيو) إلى منتصف الشهر بقمة الدول الصناعية السبع في إيطاليا وبمؤتمر السلام لأوكرانيا في سويسرا.
الجديد هو في المواقف الأوروبية التي قررت أن من حق أوكرانيا استخدام الأسلحة الغربية التي توفرها لها دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) لضرب المواقع العسكرية في عمق الأراضي الروسية. في البدء، تردد الرئيس جو بايدن في دعم المواقف البريطانية والفرنسية والدنماركية وتلك التي يتبناها الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ، لكن وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن وافق الرأي الأوروبي الداعي إلى رفع الحظر عن استخدام أوكرانيا الأسلحة الغربية. ويوم الخميس الماضي، عدّلت إدارة بايدن من مواقفها المعارضة.
الانقسامات الأوروبية - الأوروبية وتلك بين الولايات المتحدة ودول أوروبية تشمل الاختلاف على تحويل الأموال الروسية المجمدة إلى أوكرانيا للدفاع عن نفسها، وسط اندفاع روسي عسكري جديد يُخشى أن يقلب المعادلة في الحرب الأوكرانية. تشمل أيضاً الخلاف على عضوية أوكرانيا في الناتو، إذ إن واشنطن ما زالت حذرة شأنها شأن ألمانيا التي بدورها لا توافق الرأي البريطاني والفرنسي ولا التصعيد الصاروخي الخطير.
بريطانيا أزعجت روسيا بالدرجة الأولى لتوفيرها صواريخ من نوع "ستورم شادو" لأوكرانيا وصادقت على استخدامها في الأراضي الروسية، وليس فقط في أوكرانيا. لكن فرنسا، على مستوى رئيسها إيمانويل ماكرون، هي التي تقدم الصواريخ وتتوعد بصراحة. ماكرون يرى أن الوسيلة الوحيدة لإيقاف الزحف الروسي إلى الانتصار هو عبر استخدام الصواريخ الغربية لضرب العمق الروسي. ومن المتوقع أن يعلن ماكرون من منصّة نورماندي أنه سيرسل 150 مستشاراً ومدرباً عسكرياً فرنسياً إلى الخطوط الأمامية، وهذا في رأي البعض مقدمة لاستعداد فرنسا للدخول في حرب مباشرة ضد روسيا.
إذا وقعت حرب مباشرة بين دولة أوروبية نووية وروسيا، لن تكون حرب دبابات بل حرب صواريخ وحرباً نووية تكتيكية.
بعض دول البلطيق جاهز أيضاً لإرسال قوات وسط انقسام الدول الأعضاء في الناتو. اللافت هو أن لا حاجة إلى إجماع بين حلفاء الناتو على إرسال قوات أو على استهداف العمق الروسي وليس فقط مقاطعة دونباس والقرم الواقعة تحت السيطرة الروسية. فالكلام هو عن إرسال دول في حلف الناتو القوات وليس عن قوات تابعة للناتو. بولندا ورومانيا والجمهورية التشيكية مع، فيما هنغاريا وسلوفاكيا ضد، على سبيل المثال.
بولندا مهمة في المعادلة، كذلك رومانيا، لأن طائرات الـF-16 ستُسلّم إليهما والرئيس بوتين قال سابقاً إن حقه القانوني هو ضرب هذه الطائرات في مهد المطارات في بولندا ورومانيا. بولندا لمّحت إلى كالينينغراد الروسية الواقعة بين بولندا وليتوانيا حيث أهم المنشآت النووية الروسية.
وفي روسيا، بحسب مسؤول سابق مقرّب من المؤسسة العسكرية، هناك ضغوط على فلاديمير بوتين بأن يقوم الآن باختبار نووي بالذات في جزر نوفايا زمليا Novaya Zemlya التي سبق أن استخدمها الاتحاد السوفياتي لاختبارات نووية جوية وتحت الأرض. هناك أيضاً دعوات روسية شعبية إلى القيام بالاختبار النووي بأسرع ما يمكن لإظهار الجديّة الروسية والاستعداد لاستخدام الأسلحة النووية أمام حلف الناتو.
فلاديمير بوتين ليس مستعداً لاستخدام السلاح النووي ضد الجيش الأوكراني، قال المسؤول السابق، لكنه جاهز لاستخدامه ضد القوات الأجنبية الغربية التي تستهدف الأراضي الروسية، ويرى أن لذلك مبرراته.
الرسالة الأوروبية إلى بوتين عشية مؤتمر السلام الذي سيعرض ويسوّق المبادرة الأوكرانية ولن تشارك فيه روسيا هي: إما أن تحسن التصرّف وتنزل عن الشجرة، فتكون أمامك فرصة للتفاوض والسلام. وإلا، فاستعد لضربات صاروخية جديّة في عمق الأراضي الروسية.
أحد الذين يعرفون الرئيس الروسي عن كثب قال لي إن فلاديمير بوتين لن يقبل حتى وقف النار، ولن يوافق على الطرح الأوكراني، ولن يتراجع عن مواقفه ولا عن عزمه على تحقيق الانتصار العسكري. فهو في حاجة إلى الانتصار العسكري ويرى أن وقف النار يعني له الهزيمة. أضاف، أن فلاديمير بوتين مستعد لاستخدام الأسلحة النووية، والذين يستنتجون أنه ضعيف ولن يجرؤ إنما لا يعرفون فلاديمير بوتين.
فمن سيرمش Blink أولاً؟ ومَن يُخادع Bluff؟ الأسبوعان المقبلان مهمّان، وهناك من يعتقد أن مسألة الحرب الأوروبية إنما هي مسألة زمن قد تكون بقرب الأسابيع القليلة المقبلة.
مؤتمر السلام الذي يرجَّح أن يحضره الرئيس الأميركي لأنه سيكون في إيطاليا قرب سويسرا لقمة السبع G-7 قبل يومٍ منه، سيكون مؤتمراً لافتاً، لا سيّما أن قمة السبع ستعرب عن استمرار الدعم العملي والبراغماتي لأوكرانيا. ذلك أن الدول الغربية بدأت تقلق من الإنجازات الروسية في الميدان العسكري، مع أن البعض يشير إلى أن روسيا لم تتمكن حتى من "تحرير" دونباس.
الاستفزازات لروسيا، كما تنظر إليها موسكو، لن تتوقف عند الصواريخ والتدريب العسكري، بل لها بعد ما تعتبره استيلاءً غير شرعي على الأصول الروسية المجمدة لإعطائها إلى أوكرانيا. ويُذكَر أن إستونيا تبنّت الأسبوع الماضي قانوناً يسمح بمصادرة الأصول الروسية.
كل هذا يفيد بأن العد العكسي لمواجهة من نوع جديد بين أوروبا وروسيا باتت على الأبواب. وإذا قامت روسيا رداً على تعمّق صواريخ بريطانيا في عمق الأراضي الروسية باعتمادها قرار الردّ عسكرياً في عمق الأراضي البريطانية، عندئذٍ فإننا نتحدث عن تطور الحرب إلى نووية تكتيكية تبدأ بها عملياً روسيا.
كثير من العسكريين يقلّل من المخاوف من الحرب التكتيكية النووية باعتبارها ليست حرباً نووية بمعنى أنها تستخدم أسلحة نووية استراتيجية. لكن في حال مواجهة بريطانية - روسية نووية تكتيكياً، لن تقف الولايات المتحدة متفرجة. وعندئذ الحديث عن حرب نووية.
الضغوط التي تُمارَس الآن على فلاديمير بوتين هدفها ثنيه عن مثل هذا السيناريو، لأن روسيا هي التي ستكون بادئة باستخدام السلاح النووي إذا ردّت على بريطانيا أو فرنسا في عمق أراضيها.
لكن لا مؤشر على نجاح ضغوط الاثناء لأن روسيا وبيلاروسيا قامتا في الأسابيع القليلة الماضية بتدريبات مشتركة على استخدام الأسلحة النووية، فيما أعلن بوتين من أوزبكستان أنه بالغ الجديّة في عزمه الرد الصارم على ما يعتبره استفزازات ومساعيَ لتقزيمه آتية من الغرب بقيادة بريطانية وفرنسية.
المعضلة هي أن لا مؤشر في الأفق إلى صفقة أو مشروع سلام جدّي بين روسيا وأوكرانيا لا اليوم ولا في خطط الأسبوعين المقبلين. المشكلة هي في رهان الغرب على وهن في روسيا وضعف بنيوي في رئيسها وجبنٍ أمام حرب أوروبية نووية تبدأها روسيا.
هذا رهان وليس استراتيجية. هذا ما لم يكن الغرب قد توصّل إلى الاستنتاج أن لا مجال للتخلص من رجلٍ اسمه فلاديمير بوتين سوى بتوريطه في إطلاق حرب أوروبية نووية أول ما تقضي عليه هو روسيا.