أبدت مجموعة من المثقفين العراقيين مخاوفها من إمكان أن يتحول العراق إلى دولة دينية بعد إلغاء الاحتفال السنوي بيوم 14 تموز (يوليو)، وهو اليوم الذي تم فيه عام 1958 الإعلان عن قيام النظام الجمهوري في العراق بعد الانقلاب الذي قاده الزعيم عبد الكريم قاسم وأدى إلى إطاحة النظام الملكي الذي أُقيم مع البدء بتأسيس دولة حديثة في العراق عام 1921. لم يستمر الحكم الملكي إذاً سوى 37 سنة قاده ثلاثة ملوك هم فيصل الأول وابنه غازي وحفيده فيصل الثاني الذي كان يوم قُتل صبيحة 14 تموز في سن الثالثة والعشرين.
ورغم الشعبية التي لا يزال زعيم الانقلاب عبد الكريم قاسم يحظى بها بين أحفاد الريفيين الذين يُقال إنه احتضنهم حين فتح أبواب بغداد أمامهم ليتسع حزام الفقر من حولها، فإنّ هناك مَن يسلط الضوء على تحول العراق بعد عسكرة النظام إلى ساحة لتصفية الحسابات بين الأحزاب. كانت تلك بداية المذبحة التي صارت تتكرر بين حين وآخر في ظل استمرار مسيرات الانتقام ونشاط الأجهزة الأمنية الذي كان عنواناً لإرهاب الدولة، وبخاصة بعد نجاح البعثيين في انقلابهم عام 1968 الذي كان بمثابة بداية جديدة للجمهورية، وهي البداية التي وضعت العراق على طريق التنمية الحقيقية إذ لمس العراقيون بأيديهم ثمار تحولات اقتصادية لم يشهدها آباؤهم. ورغم أن البعثيين كانوا قد اعتبروا يوم 17 تموز، وهو اليوم الذي نجحوا فيه في إزاحة الرئيس عبد الرحمن محمد عارف من السلطة عطلة رسمية، غير أنهم لم يلغوا عطلة يوم 14 تموز باعتباره اليوم الذي تحرر فيه العراق من الوصاية الإنكليزية وأنهى النظام الملكي.
اليوم الذي سقطت فيه الدولة العراقية
يبدو المثقفون العراقيون الذين وقعوا على بيان كما لو أنهم من أهل الكهف. لم يستيقظوا إلا حين أُعلن عن إلغاء عطلة يوم 14 تموز. لقد مرت مياه كثيرة تحت الجسور كما يقول المثل من غير أن ينتبهوا إليها. في عشر سنوات شهد العراق أربعة انقلابات. أولها انقلاب قاسم على النظام الملكي وثانيها انقلاب البعثيين عام 1963 وثالثهما انقلاب عبد السلام محمد عارف على البعثيين في السنة نفسها، أما رابعها فهو انقلاب البعثيين على نظام عبد الرحمن عارف. وهو الرجل الذي لم يقاوم واستسلم ليكشف عن موقف زاهد في السلطة. بعد ذلك استمر البعثيون في الحكم 35 سنة.
عبر كل تلك التحولات التراجيدية ظلت الدولة العراقية التي تأسست في العهد الملكي قائمة لم تُمس. أما حين أصبح العراق في عهدة سلطة الاحتلال الأميركي عام 2003 فقد ألغيت الدولة وشُطبت كما لو أنها كانت دولة من ورق. لقد تم يومها الترويج لمصطلح السقوط وكان المقصود سقوط الدولة العراقية الذي يشير إلى إلغاء تلك الدولة التي كان عمرها أكثر من 80 سنة. لا أتذكر أن مثقفي العراق قد شعروا بالاستفزاز وهم يرون دولتهم قد وضعت على الرف بقدر ما أتذكر أن هناك عدداً منهم قد وجهوا رسالة شكر إلى جورج بوش الابن وتوني بلير لأنهما قادا حملة الاحتلال. لقد سقطت الدولة العراقية وهو ما يعني أن كل عناوينها قد سقطت، ومن ضمنها 14 تموز. بعد ذلك انتظر حزبيو العراق في مرحلة ما بعد الاحتلال أكثر من عشرين سنة لكي يكشفوا علانية عن رغبتهم في التخلص عن آخر رموز الدولة العراقية.
الحقد على بغداد هو الأصل
أشار البيان الذي وقعه عدد من المثقفين العراقيين إلى أن العراق اليوم دولة من غير علم ولا نشيد وطني ولا عيد وطني. ذلك صحيح. فالعلم الحالي ونشيد "موطني موطني" لم يُعتمدا بناءً على قانون، بل تم اللجوء إليهما نوعاً من سد الفراغ في انتظار بديلين ثابتين تم نسيانهما أو التغاضي عنهما لأنهما يقعان في منطقة سيادية، يجب أن لا يتم التأكيد عليها من وجهة نظر الأحزاب الحاكمة. غير أن ذلك هو جزء صغير من مشكلة أكبر وأشد عصفاً. تلك المشكلة تتعلق بالموقف المعادي لتاريخ العراق العربي. وهو موقف مستلهم من الموقف الإيراني بل ويتطابق معه. ذلك لأنه يستند إلى رؤى وأفكار طائفية تكمن مصادرها في المرويات الفارسية عبر التاريخ. تلك مرويات لا علاقة لها بالمذهب الشيعي الذي اختبأت وراءه وجعلته حجة لها في تشويه تاريخ بغداد العربي الإسلامي في العصر العباسي وهو عصر بغداد الذهبي. لم تكن بغداد موجودة من قبله ومن بعده انتهت الحياة الحقيقية فيها. ومَن له اطلاع على أحوال شارع الرشيد الذي هو العمود الفقري لبغداد لا بد أنه يعرف مدى الإهمال الذي عاناه ذلك الشارع بعد الاحتلال حتى تحول إلى مزبلة لا لشيء إلا لأنه يحمل اسم هارون الرشيد الخليفة العباسي الذي يناصبه الفرس أشد أنواع العداء بسبب قضائه على ظاهرة الفساد التي كان يقف وراءها البرامكة. ولقد سبق للميليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني أن طالبت بإزالة تمثال رأس أبو جعفر المنصور مؤسس بغداد. وهو ما يعني أن محو تاريخ العراق العربي كان ولا يزال جوهر المسألة.
الهوية التي مُحيت قبل الجمهورية
عام 2015 قام أفراد من تنظيم "داعش" بتحطيم أحد الثيران الآشورية المجنحة. قبل ذلك بأكثر من عشر سنوات قامت القوات الأميركية الغازية بتحطيم بوابة المتحف العراقي الذي هو واحد من أهم المتاحف الآثارية في العالم وسمحت للرعاع بسرقة الكثير من الآثار الثمينة النادرة منه. أما مكتبة المخطوطات فقد تم نهبها وحرقها في الوقت الذي نُهبت فيه مقتنيات متحف الفن الحديث. سلط البعض الضوء على المغزى الأخلاقي من أجل إظهار الشعب العراقي باعتباره مجموعة من اللصوص المتخلفين، غير أن الحقيقة ليست كذلك. كان هناك عمل ممنهج تبناه الأميركيون لمحو تاريخ العراق، القديم والمعاصر على حد سواء. ومن الوقائع التي صارت جزءاً من التاريخ أن مثقفين عراقيين كانوا قد صبوا كل جهدهم على إزاحة الوجه العربي للعراق تحت شعار "العراق أولاً"، وهو شعار مضلل تبناه الأميركيون وضخ فيه الإيرانيون الكثير من مروياتهم الزائفة. أما كان على المثقفين العراقيين الذين استفزهم قرار إلغاء عطلة عيد الجمهورية أن ينتبهوا إلى أن العراق كان قد فقد الكثير من ملامح هويته التاريخية قبل ذلك؟