ما القرآن؟
هذا سؤال طرحه البشر، مسلمين وغير مسلمين، منذ أكثر من أربعة عشر قرناً ولم يزالوا مختلفين فيه، والخلاف فيه محمود على عكس المظنون. فالقرآن الكريم، وفي عظمته وجلاله وقدسيته، أكبر من أن يحيط به فرد وأسمى من أن تبلغه حدود المعرفة البشرية. ومع ذلك يظن أغلبنا أنه يعرف ما القرآن! وللأسف تتزايد الثقة بمعرفة القرآن طرداً مع الجهل به. وإني لأخال أن جهلنا بالقرآن الكريم هو أكبر من جهل سابقينا إذا ما أخذنا بالحسبان نسبة عصرنا إلى عصرهم، خاصة وأنا وُلدنا على وجود المصحف بين ظهرانينا واعتدناه وألفناه، نقرأ منه على أمواتنا أكثر مما نقرأ على أحيائنا، نستمع له فنطرب لصوت القارئ وننسى تدبره والتفكر في معانيه ومقاصده، حتى صار اعتيادنا على القرآن وقربنا الشديد منه أحد أهم أسباب ابتعادنا عنه وهجراننا له. وما كان لهذه المفارقة أن تحدث لو أننا التزمنا بما أمرنا به قائله عزّ وجل حين قال في سورة الأعراف (204) منه: (وَإِذَا قُرِئَ ٱلْقُرْءَانُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُۥ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ونحن اليوم لم نفرط في الإنصات الذي يقتضي الامتثال فحسب، بل إن أغلبنا يسمع ولا يستمع، وشتّان بين الحالين.
ما القرآن؟ سؤال أجاب عليه أحد كفار قريش جواباً ما زالت الآثار تتناقله حتى يومنا كإحدى أجمل شهادات خصومه فيه، والشاهد هو الوليد بن المغيرة حين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه يطلب منه أن يقول قولاً يظهر فيه أنه منكر له، أو كاره له، فقال الوليد: وماذا أقول؟! فوالله، ما فيكم من رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله، إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه ما يحبّون! قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: (هذا سحر يؤثر)، فجاءه الرد الإلهي في أعظم صور البيان والبلاغة مقروناً بالتهديد والوعيد، ذلك لأنه عرف الحق فأنكره، فقال تعالى عنه: (كَلَّا ۖ إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً ﴿16﴾ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ﴿17﴾ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ﴿18﴾ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴿19﴾ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴿20﴾ ثُمَّ نَظَرَ ﴿21﴾ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ﴿22﴾ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ﴿23﴾ فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴿24﴾ إِنْ هَٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴿25﴾ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴿26﴾).
وقع الوليد في أعظم خطايا النفس البشرية؛ خطيئة الكبر والغرور، وظلم نفسه وقومه حين طعن في الحق ليسترضيهم، وأنكر أن يكون القرآن من عند الله ليكون إنكاره هذا دليلاً على أنه من عند الله، وذلك حين وقع الوليد كما وقع أبو لهب أيضاً في المعضلة ذاتها، وكان يكفيهما أن يؤمنا بالقرآن ليثبتا أنه ليس من عند الله، إذ كيف سيتوعد الله بالعذاب والجحيم من يؤمن به؟
ما وراء تعريف القرآن
القرآن كلام الله أنزله على نبيه باللغة العربية متضمناً شريعة الإسلام وعقيدة التوحيد ومكملاً للرسالات السماوية السابقة عليه، فهو آخر الكتب منزلاً على آخر الأنبياء، فيه أحكام وقصص وشعائر وعبادات وأوامر ونواه وقيم أخلاقية، وفيه صراط الإيمان وأركانه الرئيسة وغيبياته الكبرى؛ الخلق والموت والحساب والجنة والنار.
ولأننا وُلدنا في الإسلام وكبرنا عليه ولم نعرف حيرة الشرك بالله، فقد ألفنا كتاب الله حتى اختلطت علينا بعض الأمور حوله دون أن ندرك ذلك أو نتنبه له، ومن أهم هذه الأمور أننا صرنا ننظر للقرآن وكأنه كتاب أرسله الله لنا نحن المسلمين تماماً كما ينظر غير المسلمين إليه، فيقولون لنا: قال كتابكم.. وذكر كتابكم.. حتى بتنا لا نراجع أنفسنا أبداً في العبارة التي نفترض صحتها ونسلم بها دون نقد أو تمحيص، أقصد عبارة (أن الله أنزل القرآن للمسلمين/أو على المسلمين/ فقط).
وعن هذا الخلط السابق نتج خلط آخر أكبر وأخطر يتعلق بتفسير القرآن الكريم، إذ طالما أنه كتاب المسلمين ومنزّل على المسلمين، فللمسلمين وحدهم حق تفسيره، ثم مع الزمن أضيفت، إلى جانب شرط أن يكون مفسر القرآن مسلماً، شروط أخرى كثيرة جداً، حتى أوشكنا اليوم على إغلاق باب التفسير إغلاقاً نهائياً لولا بعض الجهود الفردية، والتي رغم قيمتها، ليست كافية كي نعطي هذا القرآن الكريم حقه بقدر ما نستطيع، وبقدر ما يجب علينا كمؤمنين به.
وإذ أعتقد أنه لا يمكن لأحد أن يعرّف القرآن تعريفاً تاماً وكاملاً، يبقى ما أوردته أعلاه كافياً بقدر جزئي لكي نستوضح بعض أهم ما ينبغي أن نأخذه بالاعتبار في سبيل أن تكون معرفتنا بكتاب الله أكثر نفع وقيمة، فنستطيع أن نجدد النظر إليه وندرك عظمة وجوده في حياتنا بعدما ألفنا هذا الوجود واعتدناه، علّنا نكون بذلك أقرب إلى الامتثال له، وإلى الاستجابة إلى ما دعانا الله إليه فيه.
القرآن من ناحية ما ينبغي أن يعتقده المؤمنون به، هو أعظم وأقدس ما على الأرض، هو كلام الله الذي لا تبديل له، وهو الحق الخالص والتام الذي لا تأتيه شبهة الباطل على أي وجه من الوجوه، وهو المعجزة الخالدة بإطلاق قبل أن يخلق الله الخلق، والباقية بإطلاق بعد أن يفنيه، ومع أن الله أنزل كلماته وكتبه قبل القرآن، فإنه ميّزه عنها بأن جعله آخرها والمهيمن عليها وخصّه دونها بحفظه وجعله صالحاً لكل البشر في كل زمان ومكان.
والقرآن خطاب إلهي للناس جميعاً، فهو لا يخص المسلمين إنما يشملهم، ولا يقتصر الخطاب فيه على المؤمنين بل يتضمنهم، فلا يُخاطب فيه المسلمون أو الذين أسلموا، إنما المخاطب فيه المؤمنون والذين آمنوا أحياناً، كما يخاطب فيه الذين كفروا أحياناً، أو يشملهما خطاب واحد أحياناً ثالثة موجهٌ للناس جميعاً، أو لبني آدام دون استثناء أو تخصيص.
ولأنه لا يجوز أن يبلِّغ كلمات الله لخلقه إلا مؤمن بها، فقد اختار الله رسله وهداهم للإيمان ثم أمرهم بتبليغ كلامه، ولذلك فالقرآن ليس مخصصاً للمؤمنين ولكنهم هم المخصصون بتبليغه بعد أن انقطعت الرسالات السماوية وختم الله بمحمد عليه الصلاة والسلام رسله، فهل نتصف حقاً بأننا أهل لمهمة التبليغ هذه ونحن ما نحن عليه من علاقتنا بالقرآن اليوم؟
القرآن الكريم حين كان إرثاً إنسانياً عاماً
إذن.. لم يخترنا الله كمسلمين لنبلّغ القرآن للبشرية فحسب، بل اختياره لنا يجعلنا مكلّفين بذلك أيضاً، وهذا ما ينبغي أن يكون، أما ما هو كائن فعلاً فليس أننا مقصّرون عن تبليغه فقط، بل لقد أصبحنا عثرة تسد الطريق بين كلام الله وبقية خلقه، إذ بدل أن يُحكم علينا من خلاله بات يُحكم عليه من خلالنا نحن، وقد صار شائعاً أنه كتاب خاص بنا كمسلمين ولا يتوجَّه لأحد سوانا. لاحظوا مثلاً حين يُسأل غير المسلمين عن القرآن، وخاصة في الغرب، إن كانوا قد قرأوا فيه أو رغبوا بالتعرف عليه، فإن أغلب الأجوبة تأتي بالنفي بسبب خشية غير المسلمين من هذا الكتاب وتوقعهم أنه مليء بالعنف والقسوة والإرهاب قياساً على صورة الإسلام لديهم وحالة الإسلاموفوبيا التي لم يُعرف لها مثيل عبر التاريخ.
قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام في سورة الأنبياء (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، وكلفه بتبليغ القرآن واصفاً إياه بأنه رحمة وهدى وموعظة وبشرى، وأن فيه خلاص الدنيا وخلاص الآخرة، ومع ذلك فالنبي الذي بُعث في قومه الذين يعرفون صدقه وأمانته، وخاطبهم بلسانهم الذي يفهمونه، لاقى من تكذيبهم وإنكارهم ما لاقاه، فصبر وتحمل في سبيل ذلك الكثير من الأذى، وكان حريصاً على هدايتهم يدافع عنهم ويدعو لهم ويسأل الله أن لا يعذبهم لأنهم جاهلون، حتى لما أصبح للإسلام دولة في ظله، وجيشٌ يدافع عنه لم ينقطع النبي الكريم عن الدعوة ولم يعتدِ على غير المسلمين بسبب عدم إيمانهم، (إنما أجيزت الحرب ضدَّهم لردِّ عدوانهم، سواء لينتقموا من المسلمين، أو ليصدوهم عن الدعوة لله)، فكانت أقوال النبي هذه وأفعاله من أهم أسباب هداية الناس للقرآن الكريم والدين القويم، فهل نحن مقتدون اليوم بسنته وطريقته في تبليغ كلام الله؟
بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حمل المسلمون كتاب الله وحملهم لينتشروا في بقاع واسعة من الأرض، فاصطدموا بأقوام وحضارات لم يكونوا على علم بوجودها، وانفتحوا على ثقافات وعلوم ومعارف قديمة لأمم لديهم كتب سماوية، وأمم أخرى لديهم كتب أرضية في علوم الحكمة والفلسفة والطبيعة، فأقبلوا على هذه العلوم ينهلون منها ويقاطعون بينها وبين ما لديهم، ويعيدون إنتاجها بالنقد والتطوير بناء على معيار الحق الذي في أيديهم، أي كتاب الله، فأخذوا بما يوافقه وصححوا ما يخالفه ووفقوا بينه وبين ما يختلف عنه.
ولم ينجح المسلمون الأوائل في التوفيق بين القرآن الكريم وما صحّ من علوم الآخرين إلا لأنهم عملوا على تفسيره وفهمه مرة بعد أخرى خلال عهود طويلة مرَّت على نزوله، ولم تكن هذه هي الحاجة الوحيدة أو الأولى لتفسير القرآن، بل سبقها دخول غير العرب في الإسلام، ورغبتهم بالتعرف عليه وفهم الهدي الذي فيه.
من خلال هذه التشاركية بين الوحي من جهة، والتراث الإنساني العلمي والفلسفي حتى ذلك العصر من جهة أخرى، صاغ المسلمون من العرب وغيرهم نموذجاً حضارياً رائداً مثَّل مرحلة مهمة من مراحل التقدم الإنساني في كافة أنحاء الأرض، ولأن القرآن الكريم كان العنصر الرئيس في تكوين ثقافة هذه الحضارة فقد انتقل تأثيره عبرها إلى حضارات الأمم الأخرى، سواء بشكل مباشر حين دخلت الشعوب الأخرى في الإسلام، أو بشكل غير مباشر حين تعرفت على ثقافته وعلومه من خلال الترجمة والتواصل الإنساني.
وعن تفسير القرآن أيضاً نشأ علم الكلام الإسلامي، والذي كان سبب نشأته حاجة المسلمين للدفاع عن عقيدتهم بالعقل والمنطق أمام من لا يؤمنون بالقرآن فلا يقبلون به حجة لإثبات الحقيقة أو دليلاً عليها أو طريقاً إليها. إلى جانب ذلك كان لعلم الكلام الإسلامي غاية أخرى ارتبطت بدفاع المسلمين أنفسهم عمّا اختلفوا حوله من مسائل الإيمان والعقيدة في مذاهبهم وطوائفهم، فاتفقوا جميعاً على أنَّ المرجعية هي كتاب الله، واختلفوا في تفسيره. ولقد كان علم الكلام الإسلامي، ورغم مرجعيته النصية الثابتة، على سوية فكرية عالية استطاعت إنتاج منظومة علم لاهوتي يجمع بين الإيمان والمنطق من جهة، ومنظومة علوم فلسفية تجمع بين العقل والنقل من جهة أخرى، ناهيك عن العلوم الصوفية التي حرص روادها على تجاوز الاختلاف بين العقل والنقل ليجمعوا بينهما في تجربة وجدانية واحدة قوامها التوحيد بين الحكمة والإيمان ليكونا شيئاً واحداً لا يمكن فصله عن بعضه.
ولأن الحضارة الإسلامية لم تكن إسلامية خالصة، فلقد عاشت إلى جانب نُخبها وعلمائها نُخب أخرى من أصحاب الديانات، وبخاصة المسيحية واليهودية، فكان منهم الفلاسفة واللاهوتيون ورجال الدين أيضاً، ممن تأثروا بالقرآن الكريم مباشرة لمعرفتهم بالعربية، أو بالعلوم الأخرى التي استندت إليه، فأعادوا تجديد فلسفاتهم الدينية ولاهوتهم في ظل هذا التأثير، ناهيك طبعاً عن الاحتكاك الحضاري الذي شهده الأوروبيون عبر اتصالهم بالثقافة الإسلامية المستندة إلى القرآن الكريم في الأندلس قبل أن يستعيدوها، ويؤكد مؤرخو الحضارة اليوم أن هذا الاتصال كان أحد أهم أسباب انتقال أوروبا من العصور الوسيطة المظلمة إلى العصور الحديثة المعروفة بالتنوير ثم العلم ثم الحداثة ثم الثورة الصناعية.
القرآن الكريم وتجديد القيم الإنسانية
استطاع المسلمون في أوج حضارتهم أن يكونوا نموذجاً يُقتدى، إذ أنهم لم ينقلوا القيم العظيمة في القرآن الكريم للأمم الأخرى كما هي مكتوبة فحسب، بل وكما تمثلوها أيضاً في سلوكهم بين أنفسهم ومع الآخر، كان التسامح، والمساواة، وقبول الاختلاف، والتراحم، والجدال بالتي هي أحسن، والصدق في القول، والإتقان في العمل، والعدل بين الناس وغيرها من الفضائل التي فرطنا بها اليوم، كانت جميعها تعكس وبشكل عملي كيف أثّر القرآن الكريم في جماعات متفرقة من الأعراب الأميين المشهورين بالجهالة والتعصب والعنف والغزو والسلب، ليجعلهم كلام الله أرق الناس أفئدة، وأغزرهم علماً، وأكثرهم تواضعاً، وأحرصهم على العدل والمساواة.
وعلى هدي القيم التي زرعها القرآن الكريم في نفوس المؤمنين تأسست ثقافة المجتمع الإسلامي وعاداته وأعرافه وقوانينه، ونشأ وسط اجتماعي حُفظت فيه حقوق الناس جميعاً؛ فكان المسلم منهم وغير المسلم على حد سواء في التنعم بالحق في الحياة، وبالحرية في المعتقد، وفي التعاون على البر والتقوى، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي المعاملة بالحسنى، وإفشاء السلام والإصلاح بين الناس، وفي توزيع فائض الثروات على الفقير والمحتاج، إما بالزكاة وإما بالصدقة.
وخلال القرون الأربعة الأولى من نزول القرآن الكريم عرفت البلاد الإسلامية في ظل آياته حالة من المدنية التي يندر وجودها في التاريخ، إذ تألفت الحواضر الإسلامية من مكونات عرقية شتى؛ عرب وفرس وأتراك وأكراد وأقباط وبربر وآخرون كثر، عاشوا جميعاً في تآخ مذهبي وديني واسع الطيف، وقامت في هذه الحواضر نهضة علمية وفكرية وأدبية شارك في صناعتها اليهودي والمسيحي إلى جانب المسلم.
وغني عن القول إن المنبع الرئيس لجميع هذه القيم والمبادئ والأحكام هو القرآن الكريم حين كان المسلمون يتلون آياته ليلاً ويعملون بها نهاراً، فلا عجب أن تشهد تلك الفترة انتشار علوم القرآن وازدهار تفاسيره التي ما زلنا نعتمدها مصدراً نرجع إليه كلما أشكل علينا فهم آية من آياته، أو أردنا معرفة أحكامها، أو سبب نزولها، فلماذا توقف تجديد التفاسير وأُغلق بابها مع توقف عجلة تلك الحضارة وانقطاع أسبابها؟ وهل ثمة علاقة سببية تربط بين الأمرين؟
التفريط بالتفسير نكاية بـ "التأويل"
مع ازدياد أعداد المسلمين وتعدد مشاربهم واختلاف نوازعهم، ظهرت بينهم الفرق والمذاهب التي يأخذ بعضها بمبدأ "التقية" ويرفضه بعضها الآخر، وصُنفت هذه الفرق بين باطنية وظاهرية، وكان الدافع لظهور هذه الفرق سياسياً أحياناً، أو ثقافياً، أو عقائدياً محضاً، ورغم الاختلاف بينها في هذه الدوافع كانت متفقة جميعها على أن القرآن الكريم هو المرجع الأساس لها، وهنا ظهرت أشكال من التفسير التي سمّاها أصحابها "تأويل القرآن الكريم"، لكن هذه الأشكال لم تكن في الغالب سوى انحراف عن معاني القرآن الكريم الصحيحة والواضحة في غالبيتها، وتوجيهها نحو منح شرعية مزيفة لما تريده هذه الفرق وما يخدم مصالحها وتطلعاتها التي كانت سياسية في الغالب.
خشي علماء القرآن ومفسروه على عامة المسلمين أن تختلط لديهم الحقيقة بالوهم، فحاولوا أن يكشفوا زيف التفاسير الجديدة للقرآن والمتخفية تحت قناع التأويل، ووضعوا شروطاً للتفسير بدأت بسيطة في الغالب ثم تجولت نحو التشدد أكثر فأكثر، ولأنه لا يتسع المقام هنا لاستعراض هذه الشروط وتبيان ملامح تشددها، سنكتفي بالإشارة إلى أنَّ هذه الشروط أثرت على حركة التفسير بشكل سلبي واضح تجلى أكثر ما تجلى في اعتماد تفاسير القدماء مصدراً رئيساً لا يجوز تجاوزه أو الخروج عنه، ولا حتى عن مناهجه في أغلب الأحيان، حتى لقد أصبح هذا التراث إرثاً متداولاً بيننا نال، رويداً رويداً، جزءاً من قداسة القرآن الكريم ذاته، وأصبح كذلك محمياً من النقد والمراجعة، ومهيمناً على التفاسير اللاحقة عليه. وهكذا أدى الإفراط في التأويل إلى التفريط في التفسير، فضيّعنا الاثنين.
ثمة مشكلة أخرى ترتبط بهذا التراث التفسيري، وهي أنه مكتوب بأساليب لغوية قديمة، وفي فضاء ثقافي وعلمي تجاوزناه بمراحل عديدة حتى صار وراء ظهورنا، ورغم ذلك فأنا لا أدعو هنا إلى رفضه كله، بل إلى عدم فرضه علينا أولاً، وإلى عدم تقديسه كمقدمة ضرورية لنقده ومراجعته ثانياً، ويستطيع أي قارئ عادي للتفاسير القديمة أن يكتشف اليوم ما ينطوي عليه بعضها من معانٍ شاذةٍ وغريبة لا تقبلها العقيدة، أو قصص خرافية لا يقبلها العقل أو آراء خاطئة لا تقبلها الفطرة السليمة. ورغم أن المدافعين اليوم عن هذه التفاسير يدعوننا لقراءتها بحذر، فإن هذه الدعوة غير كافية إذا لم نستطع أن نستبدلها بتفاسير جديدة، أكثر دقة وصحة، لكلام الله وما حمله كتابه من قصص ومواعظ ووصايا وأخبار.
علينا أيضاً أن نعيد الاعتبار لمصطلح التأويل بعدما أصبح مصطلحاً مشبوهاً نتيجة استغلاله من قبل أحد اثنين، إما جاهل يدعي المعرفة، وإما مزيِّف للحق يدّعي الإيمان، ثم بعد ذلك ينبغي أن نفرق بين المصطلحين: التفسير والتأويل، تفريقاً واضحاً وصريحاً، خاصة وأننا نجد استخدامهما بالترادف شائعاً في بعض كتب التفسير القديمة. بل إن ما نجدها شروطاً مشددة على التفسير هي ليست في الحقيقة إلا شروط ضبط التأويل ذاته.
خاتمة
هذه الأفكار هي ما أعتقده مقدمات أولية تمكننا من استئناف تجديد تفسير القرآن الكريم من الناحية العملية، أما من الناحية النظرية فنحن بحاجة ماسة أيضاً إلى تجديد نظرتنا إلى كتاب الله وتعميق فهمنا للغاية من نزوله والرسالة التي جاء بها، وأن ننطلق من أنه كتاب نزل للبشر جميعهم وسيبقى كذلك، وأنه مصدر مفتوح أمام كل من أراد أن يقرأ فيه أو يطلع عليه، سواء كان من أهل الديانات السماوية أو غير السماوية، أو كان من المؤمنين أو غير المؤمنين، حينها سندرك أن أعظم ما نخدم به كتاب الله هو أن نيسر للآخرين الاطلاع عليه ومعرفة ما فيه.
أخيراً أود التنويه إلى أن أهم منهج برأيي يمكن أن نتبعه إذا أردنا العمل على إتاحة القرآن الكريم لجميع البشر هو ما أسميه (منهج الزعم)، أي أن نقدم هذا الكتاب لمن لا يعرفونه، ونزعم لهم أنه كلام الله أرسله إلينا وإليهم على حد سواء، فليقرأوه ويطلعوا على ما فيه تحت هذا الفَرَض، ولهم الحق بالتصديق أو عدم التصديق، إذ لا إكراه في الدين والله وحده يهدي من يشاء، ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ سورة الكهف - 29.
ولكي نكون مستعدين حقاً لهذا النهج فإن أول الضرورات هو أن تتضافر جهود علماء القرآن، وبأقصى ما يملكونه من طاقة، في العمل على تجديد تفسير القرآن الكريم كي يفهمه الآخرون في سياق الوعي الإنساني المعاصر لا الوعي الذي انقضى منذ قرابة ألف عام. وليست كلمة التجديد هنا سهلة المنال أو بسيطة المعنى، إذ أدرك أنها متصلة بالكثير من القضايا والإشكالات التي تراكمت عبر مئات السنين في ظل تجميد مسيرة التفسير وتعطيل راهنيته. وآمل أن يكون لي وقفة أخرى قريبة مع أهم هذه القضايا والإشكالات.