ما أن أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن خريطة طريق جديدة من ثلاث مراحل لوقف إطلاق النار في غزة، وإبرام صفقة لتبادل الرهائن بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، وإعادة إعمار القطاع، حتى بدأت قنوات ومنصّات إعلامية ومواقع إلكترونية موالية لإيران ومناصرة لـ"حماس" احتفالات مبكرة تحت شعار "غزة انتصرت"، على الرغم من أن تفاوضاً سيتمّ بوساطة أميركية - مصرية - قطرية بشأن التفاصيل التي يكمن فيها الشيطان في العادة، ولا تمرّ من دون اعتراضات وضغوط ومحاولات لكسب الوقت أو الارض أو الرهائن والسجناء.
تفاصيل الخطة التي أعلن عنها بايدن معروفة، وثبت أنها لا تختلف كثيراً عن تلك التي جرت مفاوضات بشأنها سابقاً ثم تعطّلت، أو قل أُجهِضت، وجرى بعدها محاولة اتهام الوسيط المصري بضربها، ما أغضب القاهرة التي ردّت على الحملة التي استهدفتها بمواقف صارمة ضدّ إسرائيل، بينها الانضمام إلى الدعوى القضائية التي أقامتها جنوب أفريقيا في المحكمة الجنائية الدولية ضدّ إسرائيل، ورفض وصول المساعدات إلى القطاع عبر معبر رفح بعدما سيطر الجيش الاسرائيلي عليه.
ليس جديداً على جناح الصقور في حكومة نتنياهو، بقيادة سموتريتش وبن غفير، الاعتراض على الخطة. فكل الأحداث السابقة أظهرت أن الرفض والاعتراض والتهديد بإسقاط التحالف الحاكم مجرد أوراق يستخدمها رئيس الحكومة الإسرائيلية في مواجهة أهالي الرهائن وإدارة بايدن والشارع الغربي، للتغطية على مأساة خسائر حكومته وآلام جيشه وأحزان أسر قتلى الجيش وجرحاه، فيما لم تعد "حماس"، التي يبدو في العلن أنها لا تريد إطالة أمد الحرب، تخشى البلل بعدما أدركت إصرار إسرائيل والولايات المتحدة، وحتى الغرب كله، على إغراقها قبل "اليوم التالي" لانتهاء الحرب.
عموماً، يبدو أن احتفالات "غزة انتصرت" بدأت مبكراً لمصادرة أي دعوة لفتح ملفات تتعلق بأخطاء "حماس" أو خطايا المقاومة، وهدفها الأول تشكيل رأي عام يصبّ في اتجاه تحميل الدول العربية، وربما المجتمع الدولي، مسؤولية الأهوال التي حلّت بالفلسطينيين، والكوارث التي دمّرت قطاع غزة ومدنه وأحياءه وقتلت ناسه وأهله، وكذلك - كما في مرات سابقة - تبييض وجوه قادة "حماس" وزعماء إيران وكل طرف خطط أو دعم ما جرى في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، لضمان استمرار المناخ الذي يسمح لهم بالمناورة والوجود والمقايضة!
هذه اللعبة قديمة، أيقنها الجميع واعتادوها، ومارستها "حماس" وغيرها من الحركات والأحزاب والتنظيمات والقوى المتحالفة معها والداعمة لها عقوداً طويلة، علماً أن إيران، الدولة الوحيدة التي دعمت "حماس" علناً، لم تجرؤ على الجهر بدعم المقاومة الفلسطينية بالسلاح والعتاد والذخائر. وحين نفّذت سيناريو المسيّرات والصواريخ التي أطلقتها على إسرائيل، برّرت "المسرحية" بأنها مجرد ردّ على اعتداء إسرائيلي استهدف قنصليتها في دمشق، أي لم يأتِ لدعم "حماس" عسكرياً إلّا ميليشيات وتنظيمات عسكرية في لبنان وسوريا والعراق واليمن، فيما اختفت عشرات التنظيمات "المتأسلمة" التي ملأت الدنيا صياحاً ومتاجرة بالقضية الفلسطينية على مدى عقود، مكتفية بممارسة حرفتها الأساسية في ابتزاز الأنظمة العربية وتوزيع الاتهامات عليها عبر منصات إعلامية مدعومة من إيران، ودول أخرى، تديرها عناصر تنتمي إلى تنظيم "الإخوان" الإرهابي، صاحب الخبرات الطويلة في هذا النشاط.
مؤكّدٌ أن جولة المفاوضات الجديدة حول خطة بايدن ستكون مغايرة لكل جولة سابقة؛ اذ استبقها المصريون باجتماع تخلّوا فيه عن صفة الوسيط، وحضروه بوصفهم شركاء في أزمة تتعلق بمعبر رفح، كان طرفاه الآخران ممثلين عن إسرائيل والولايات المتحدة، أكّد فيه الطرف المصري مجدداً الموقف الرافض لإعادة تشغيل المعبر ما دام الجانب الفلسطيني منه تحت السيطرة الإسرائيلية، وأن مصر ستردّ على كل سلوك يهدّد أمنها القومي. وهذا يشير إلى أن تحفّظات مسبقة ستحكم سلوك الوسيط المصري في المفاوضات المقبلة بين "حماس" وإسرائيل، ما يرجح تكرار إسرائيل محاولاتها تعطيل المفاوضات أو حتى وقفها.
في جانب آخر، تجد الأجهزة المصرية نفسها في موقف عليها أن تواجه فيه مزاعم وأكاذيب تأتي في سياق حملة يشنّها تنظيم "الإخوان" على الدور المصري في المفاوضات بين "حماس" وإسرائيل، وعلى الجهود التي بذلتها مصر على مدى عقود لنصرة القضية الفلسطينية ودعم الفلسطينيين. من دون مواربة، لسنا في حاجة إلى أدلة أو براهين لإثبات التنسيق الإيراني – الإخونجي للإضرار بمصالح الدول العربية وأمنها واستقرارها، خصوصاً تلك التي تتخذ مواقف صارمة ضدّ سياسات إيران الهدامة. فالواقع على الأرض يعكس حقيقة ذلك التحالف، ولعبة تقسيم الأدوار تمارس بصورة واضحة بين الحليفين لإنزال الأذى بالدول العربية، وخصوصاً مصر.
بالطبع كان تنظيم "الإخوان" الطرف الرئيس في هذه اللعبة، فاللجان الإلكترونية "الإخوانجية" ووسائل الإعلام الغربية المتسرطنة بعناصر الجماعة ومراكز الأبحاث والمنظمات الحقوقية التي يسيطر عليها تنظيم "الإخوان" ويسير عملها، حاضرة دائماً في كل حملة تستهدف مصر أو جيشها أو شعبها. وقد اضطلع التنظيم بالدور المتوقع منه في الترويج للسيناريو الذي يتمّ تنفيذه للإساءة إلى الدور المصري، وتبييض وجوه الأشرار والإساءة إلى كل رمز مصري.
كان واضحاً التسخين فيما تركّز الإدارة المصرية على التصدّي للسلوك الإسرائيلي والتهديدات عند الحدود الشرقية، وتأمين الإمكانات اللوجستية التي تحتاجها عملية نقل المساعدات الإنسانية إلى الفلسطينيين من معبر كرم أبو سالم، إلى أن تُحلّ أزمة معبر رفح.
أخيراً، لم ينسَ المصريون بعد الجهود الحثيثة التي بذلها تنظيم "الإخوان" لضرب عملة بلدهم بتخفيض قيمة الجنيه المصري مقابل العملات الأجنبية الأخرى. ولم تغب عن أذهانهم بعد مشاهد مندوبي تنظيم "الإخوان" أمام المصارف ومحلات الصرافة في دول ذات وجود كثيف للعمالة المصرية، يتصيّدون كل مصري ذاهب ليحوّل مالاً إلى أهله ويعرضون عليه شراء ما معه من عملات أجنبية بسعر يفوق حتى سعر السوق السوداء في مصر، على أن يقوم "إخواني" بتوصيل المبلغ بالعملة المصرية إلى المرسل إليه. هذه واحدة من ألاعيب تنظيم "الإخوان" وجهوده للإيقاع بالاقتصاد المصري، بينما لا تتوقف منصاته عن الهجوم على السياسات الاقتصادية للحكومة، وعن شن حملات تستهدف السياحة.
على أجهزة الأمن المصرية التنبّه بشدّة في إدارتها صراعاً على جبهتين: إسرائيل وتنظيم "الإخوان"، إذ يبدو أنهما شريكان في استهداف مصر، على الرغم من ادعاء كل منهما معاداة الآخر. فقد اتفقا على تحقيق أهداف مشتركة: ضرب المجتمع المصري من الداخل، وتكثيف المعلومات الكاذبة والتصريحات المزورة والصور المزيفة والأقلام المفبركة، لتشتيت الناس وتغييب الوعي وإحداث الصخب حول ما يحدث، وخلق المشكلات حول كل واقعة.