إن حصر جغرافية الجالية الجزائرية في فرنسا خطأ كبير لأن تواريخ الجاليات الجزائرية وجغرافياتها متعددة ومشاكلها معقدة لم تحلها الدولة الجزائرية منذ الاستقلال إلى يومنا هذا.
من جديد عادت خلال هذا الأسبوع قضية تأطير الجالية الجزائرية المقيمة في فرنسا وغيرها من البلدان الأجنبية وتوجيهها، إلى المشهد السياسي الجزائري، ولكن بشكل يختلف عن المألوف سابقاً بدءاً من ستينات القرن الماضي حتى المرحلة الأولى من التعددية الحزبية خلال ثمانينات القرن العشرين في عهد الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، وانتهاءً بمرحلة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة التي دامت عشرين سنة وانتهت بحراك شعبي رافض لتقليد العهدات الرئاسية النمطية والمفتوحة.
لقد مرت محاولات تأطير الجالية الجزائرية في فرنسا خصوصاً، وفي بعض البلدان الأوروبية وفي مقدمتها بلجيكا عامة، بثلاث مراحل وهي مرحلة "فدرالية فرنسا"، ثم مرحلة "ودادية الجزائريين" في أوروبا، وبعد ذلك مرحلة الإهمال الكامل طوال العشرية الدموية التي كادت تعصف بأركان الدولة الجزائرية الفتية، ومرحلة الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة الذي ركز في بدايات حكمه على وقف الدم وتصفية آثار العشرية الأليمة، ثم دخل في عملية الانفراد بالسلطة والاستحواذ على مختلف مؤسسات الدولة بمعية المجموعة التي ما فتئ الجزائريون يصفونها بالعصابة.
من الملاحظ أن الجالية الجزائرية لم تحظ طوال هذه المراحل التي دامت ستين سنة بأي حل يذكر لمشكلاتها المستعصية، وفي هذا السياق نتساءل: هل إسناد مهمة إعداد استراتيجية تأطير الجالية الجزائرية المقيمة في الخارج الآن إلى المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بقيادة رئيسته ربيعة خرفي خطوة إلى الأمام، أم أن قضية أكثر من 6.5 ملايين من الجزائريين المهاجرين تحتاج إلى أهل الاختصاص في شؤون الهجرة، وإلى تأسيس وزارة بأكملها تسند إليها مسؤولية إعادة النظر جذرياً في العلاقة السلبية القائمة بين النظام الجزائري الحاكم وحكومته، وأفراد الجالية الذين أجبرتهم الظروف التاريخية والاجتماعية على مغادرة وطنهم قبل الاستقلال وبعده بحثاً عن فرص العمل والتكوين المهني والتعليم في فرنسا وغيرها من البلدان الشقيقة والأجنبية؟
قبل الاجابة عن هذا السؤال ينبغي القول بسرعة إن "فدرالية جبهة التحرير الوطني" التي تأسست في فرنسا بين أعوام 1956 و1962 تحملت مسؤولية "نقل أيديولوجية جبهة التحرير الوطني والتعريف بها لدى الأوساط الجزائرية المغتربة .."، وذلك "من أجل إقناع هذه الشريحة بضرورة المساهمة في إنجاح الثورة"، أكثر مما كانت من أجل تنظيم صفوف أفراد هذه الجالية في جمعيات مدنية أو بقصد التفاوض مع السلطات الفرنسية وأرباب مؤسسات العمل الفرنسية التابعة للقطاعين الخاص والعام لحل مشكلاتهم ذات الطابع النقابي والهوياتي وما يتصل بالتكوين الثقافي والمهني والمشكلات الاجتماعية.
أما "ودادية الجزائريين" في أوروبا فقد كانت من حيث الجوهر تنظيماً حزبياً تم تحت إشراف "جبهة التحرير الوطني" وليس تحت وصاية الحكومة التنفيذية الجزائرية، وجراء ذلك كان دورها منحصراً غالباً في تنظيم الجالية حزبياً وفي رفع الشعارات السياسية بهدف تعبئة أفراد الجالية لمساندة توجهات النظام الجزائري وخياراته، ولمناهضة اليمين الفرنسي المعادي للمهاجرين الجزائريين أساساً.
إذا جئنا لتقييم منجزات الرؤساء السابقين، بمن في ذلك عبد العزيز بوتفليقة، يمكن القول بأن شأن الجالية الجزائرية كان منسياً غالباً إلا في مناسبات عابرة سرعان ما انطفأ بريقها، والدليل أن الجزائر في مختلف كل هذه المراحل لم تؤسس المراكز الثقافية والمهنية والبنوك والجمعيات المختلفة لتأطير ملايين الجزائريين الذين تتكوّن منهم البنية البشرية للجالية الوطنية في المهاجر الأجنبية.
وهكذا لا نجد أي تنظيمات نقابية وثقافية أو منابر إعلامية أو مؤسسات اقتصادية، أو دور نشر، أو مؤسسات تعليمية متطورة جزائرية، تسييراً وتمويلاً وتنظيماً، سواء في فرنسا أم في بلجيكا وفي غيرهما من الدول الأوروبية / الغربية التي يقيم فيها الجزائريون والجزائريات. وجراء هذا النقص الفادح أصبحت القنصليات والسفارات الجزائرية مجرد مكاتب حصرت مهماتها في استخراج جوازات السفر وعقود الازدياد والوفاة ونقل جثامين الذين أدركتهم المنية في ديار الغربة إلى بلدانهم ليدفنوا فيها، وأحياناً اختزلت في مراقبة كمشة من المعارضين السياسيين الجزائريين الذين ينشطون بصفة فردية أحياناً كثيرة وبطرق شبه بدائية في الغالب.
وفي الواقع، فإن حصر جغرافية الجالية الجزائرية في فرنسا خطأ كبير، لأن تواريخ الجاليات الجزائرية وجغرافياتها متعددة ومشكلاتها معقدة لم تحلها الدولة الجزائرية منذ الاستقلال إلى يومنا هذا.
مثلاً، هناك في كايين، عاصمة غويانا الفرنسية التي تقع على الساحل الشمالي لأميركا الجنوبية والتي تبعد عن الجزائر أكثر من 6 آلاف و600 كلم، أحفاد 20000 جزائري منهم 20 امرأة جزائرية كانت قد نفتهم السلطات الفرنسية المحتلة للجزائر إلى هذه البقعة الجغرافية البعيدة في الفترة الممتدة من 1867 إلى 1881 ولم تعدهم إلى وطنهم الجزائر منذ ذلك الوقت. ومن المؤسف أن السلطات الجزائرية لم تحص حتى يومنا هذا تعداد الجزائريين والجزائريات الأحياء الموجودين في هذه المستعمرة الفرنسية، كما أنها لم تعمل على إعادتهم أو إدماجهم في النسيج الوطني الجزائري وربطهم بهويتهم الثقافية واللغوية الوطنية.
والحال، فإن مصير الجالية الجزائرية التي تشكلت من أحفاد الجزائريين والجزائريات الذين نفتهم فرنسا إلى كاليدونيا الجديدة التي تقع في أوقيانوسيا التي تبعد عن الجزائر مسافة 18 ألف كلم لا يزال متطابقاً مع مصير أحفاد المنفيين الجزائريين إلى كايين. وتفيد التقارير بأن 20 ألف جزائري وجزائرية يقيمون الآن في كاليدونيا، وهم موزعون بين العاصمة نوميا ومناطق أخرى من هذه الجزيرة.
والغريب في الأمر هو أن الحكومة الجزائرية لم تفاوض حتى الآن نظيرتها الفرنسية بخصوص تعقيدات أوضاع هؤلاء الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية والصحية، بل إن كل المحادثات الجارية بين الجزائر وفرنسا حول "ملف الذاكرة" التاريخية التي تعني آثار احتلال فرنسا للجزائر على مدى قرن ونصف لا تشمل الجالية الجزائرية في كاليدونيا وكايين.
ففي ظل هذا الوضع، ها هي مرحلة حكم الرئيس عبد المجيد تبون تبحث الآن عن صيغة أخرى قصد إيجاد الحلول للمشكلات الكبرى التي لا تزال تؤرق حياة أكثر من 6 ملايين جزائري وجزائرية مقيمين ومقيمات بصفة نهائية في مختلف بلدان العالم، منها أكثر من 5 ملايين نسمة على الأراضي الفرنسية. لتنفيذه هذه الاستراتيجية غير المدروسة مسبقاً، فقد أسندت مهمة إعداد برنامج إدماج الجالية الجزائرية إلى المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، علماً أن هذا المجلس ذا البعد الاقتصادي والاستثماري والاجتماعي فقط لا يملك الإمكانيات المالية الطائلة والخبرة والتخصص في شؤون الهجرة ومراكز الدراسات الاستراتيجية والكفاءات العلمية والتربوية والثقافية والإعلامية التي يمكن أن تحل مشكلات ملايين الأفراد المكونين للجالية الجزائرية الموزعة في أصقاع العالم، وفضلاً عن ذلك فإن تنصل وزارة الخارجية من هذه المهمة الثقيلة يعني إخفاق الدبلوماسية الجزائرية في التعامل جدياً مع قضية كبرى تخص أكثر من 6.5 ملايين جزائري كانوا ولا يزالون يعانون هموم البحث عن الخبزة في بلاد الغربة ومقاومة الظروف القاسية بمفردهم كي لا تسلب منهم هوياتهم الوطنية القلقة.