بعد زيارة الدولة التي قام بها الرئيس التونسي قيس سعيد للصين، طفا على السطح مجدداً التساؤل عما إذا كانت تونس تستطيع إعادة التموقع استراتيجياً، وما إذا كانت تبحث عن ذلك في كل حال من الأحوال.
الجدل ليس جديداً، فمنذ سقوط نظام زين العابدين بن علي تعالت أصوات في تونس تدعو إلى تحجيم العلاقات مع الغرب وتوثيق الروابط عوضاً عن ذلك مع الصين وروسيا وبقية بلدان مجموعة "بريكس".
كان هناك ولا يزال من يرى في إعادة التموقع حلاً يفتح أمام البلاد طريق النماء والرخاء، ويسمح لها بالخروج من تحت مظلة الهيمنة الغربية.
تقول السلطة من ناحيتها إنها لا تريد استبدال محور بآخر، مؤكدة تعلقها المستمر بسياسة رفض الأحلاف كأحد ثوابتها الدبلوماسية.
لكن هذه الثوابت، ومن بينها العلاقة مع الغرب، مرت بفترات من المد والجزر. وبقدر ما كانت هناك احترازات لدى تونس تجاه السياسات الغربية - على الصعيد الثنائي والإقليمي - فإن هناك انشغالاً لدى السياسيين والمحللين الغربيين بخصوص مستقبل العلاقات مع تونس.
بعض هؤلاء يصنفون تونس ضمن ما يسمونه بـ"الدول المتأرجحة"، أي الدول المترددة في التموقع بوضوح. نمت بعض هذه المخاوف في بعض العواصم الغربية في ظل التقلبات التي شهدتها بعض الدول في العالم، وبخاصة في أفريقيا مع تزايد إغراءات الاصطفاف وراء القوى العالمية البديلة من الغرب.
وقد تكون تلك المخاوف وراء تسريبات تناقلتها أخيراً وسائل إعلام إيطالية وفرنسية، مفادها أن طائرات عسكرية روسية حطت في مطار جربة. وقد نفت مصادر دبلوماسية تونسية وروسية الخبر جملة وتفصيلاً.
من الواضح أن الكثير قد تغير منذ 2015 عندما أعلنت الولايات المتحدة تصنيف تونس كحليف استراتيجي خارج عضوية الحلف الأطلسي (الناتو). وقالت يومها إن ذلك التصنيف يؤشر إلى انضمام تونس إلى "ديموقراطيات العالم".
لكن مسار "الانتقال الديموقراطي" الذي مثلته تجربة العشر سنوات التي تلت سقوط نظام بن علي سنة 2011 وصل إلى طريق مسدود. قبل ذلك التاريخ، قدمت البلدان الغربية دعماً أمنياً للحكومات المتعاقبة في مواجهة خطر التهديد الإرهابي وساندت إشراك الإسلاميين في السلطة. ولكنها لم تقدم الدعم الاقتصادي الكافي لهذه الحكومات التي غفلت بدورها عن تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي.
منذ تموز (يوليو) 2021 أمسك الرئيس قيس سعيد بمعظم السلطات. ولم يكن الغرب مرتاحاً إلى توقف تجربة "الانتقال الديموقراطي" التي كان قد ساندها بقوة ورأى فيها نموذجاً ناجحاً وقابلاً للتصدير.
ولم تكن تونس بدورها راضية عن انتقادات الغرب لتوجهاتها السياسية الجديدة، فيما رفضت بلدان مثل الصين "رفضاً قاطعاً أي تدخل أجنبي في الشؤون الداخلية التونسية".
اعترضت تونس على الشروط التي وضعها صندوق النقد الدولي لإبرام اتفاقية قرض يحتاجها اقتصادها المتأزم وعلى المقاربات الأوروبية في التعامل مع ظاهرة الهجرة غير النظامية.
فتور العلاقة مع البلدان الغربية دفع تونس إلى تعديل الكثير من مواقفها تجاه أوروبا وأميركا. ولكن من غير الواقعي الحديث عن تموقع استراتيجي جديد لتونس.
يعود ذلك إلى اعتبارات عدة، أولها الجغرافيا التي وضعت تونس في جوار أوروبا وفي قلب البحر الأبيض المتوسط. هذا الموقع الجيوستراتيجي لتونس قد يشكل عاملاً جذاباً لروسيا والصين، ولكنه يبقى أيضاً مسألة حيوية للغرب الذي لن يقبل بسهولة أي مشاريع لقوى منافسة قد يراها تشكل تهديداً لأمنه الاستراتيجي.
وثاني الاعتبارات هو الانخراط العضوي لتونس منذ عقود في النسيج الاقتصادي الأوروبي بشكل لا يترك لتونس اليوم بديلاً حقيقياً من علاقاتها مع أوروبا.
لا تزال العلاقات مع الصين أو روسيا بعيدة جداً عن تلبية احتياجات تونس. ومذكرة التفاهم التي انخرطت بمقتضاها في مبادرة "الحزام والطريق" الصينية في تموز 2018 لم تسمح بإنجاز مشاريع كبرى للبنية التحتية أو الاستثمارات أو لتحقيق مبادلات تجارية أكثر توازناً.
وفيما توجه تونس اليوم أكبر قدر من صادراتها نحو فرنسا وإيطاليا وألمانيا، تبقى وارداتها من الصين (وتليها روسيا وتركيا) ضمن المصادر الرئيسية للعجز التجاري الذي تعانيه البلاد.
وإذ تحتل الصين المرتبة 35 بين البلدان التي تستثمر في تونس بما قيمته 34 مليون دولار، تبلغ الاستثمارات الفرنسية المباشرة وحدها ملياري أورو. تضاف إلى ذلك كثافة العلاقات البشرية التي تربط تونس بأوروبا بعكس الصين وبقية آسيا.
قد تكون العلاقات التونسية - الصينية على أبواب "تحول نوعي" بعد اتفاق البلدين الأسبوع الماضي على إقامة "شراكة استراتيجية" بينهما. ولكنها علاقات لا تزال في أول الطريق، وإن كانت طريقاً ممهدة بحكم حاجة تونس الماسة لها وترحيب التونسيين - بحسب استطلاعات الرأي - بتعزيز العلاقات الاقتصادية مع بكين.
سوف تستفيد تونس كثيراً من تكثيف الاستثمارات الصينية المباشرة في القطاعات ذات القيمة المضافة، والتي يمكن أن تستغل الكفاءات واليد العاملة التونسية والقرب الجغرافي من أوروبا. كما أن مساعدة تونس على تعزيز بنيتها التحتية وتكثيف صادراتها وتطوير الطاقات البديلة وتنشيط حركة السياحة نحوها تشكل مجالات تعاون ممكنة.
كل ذلك من شأنه أن يسمح لتونس بتنويع شراكاتها وتعزيز استقلاليتها الاقتصادية والسياسية، وفي إدخال مزيد من التوازن على علاقاتها مع القوى العظمى في الشرق والغرب.
ولا أحد يمكن أن يجادل في أنه ليس في مصلحة تونس عدم وضع كل بيضها في سلة واحدة، حتى إن لم يكن من جملة أهدافها قلب الموازين التقليدية لعلاقاتها.