قبل أيام فاجأت محكمة التمييز الاتحادية العراقية الأوساط الإعلامية والقانونية والسياسية في البلد بقرار لها أبطلت فيه قراراً للمحكمة الاتحادية العليا واعتبرته "معدوماً" بمعنى أنه غير نافذ ولا يرتب أثراً قانونياً. رغم أن القضية التي نظرت فيها محكمة التمييز شخصية وطابعها محدود، إذ هي تتعلق بطلب قاض من محافظة صلاح الدين الحصول على التقاعد بناءً على حكم أصدرته سابقاً المحكمة الاتحادية أعادت فيه صياغة جزء من قانون التقاعد الموحد الذي أصدره البرلمان في عام 2014، فإن لهذا الحكم آثاراً سياسيةَ بعيدة المدى بسبب نوع الاعتراض الذي قدمته محكمة التمييز. محل اعتراض محكمة التمييز هو أن المحكمة الاتحادية قد تجاوزت صلاحياتها عندما أعادت صياغة مادة في هذا القانون (عبر حذف عبارة فيه)، أي أنها عدلته، وهذه مهمة تتعلق بالبرلمان حصراً وليس بالسلطة القضائية.
بعيداً عن تفاصيل طلب التقاعد هذا ورفض محكمة التمييز له، حاججت هذه المحكمة، على نحو صحيح عموماً، على امتداد خمس صفحات من قرارها المنشور أن المحكمة الاتحادية بتعديلها لقانون أصدره البرلمان تقوض الفصل بين السلطات وأنه لا يترتب أي أثر على مثل هذه القرارات. تبدو الجملة التالية هي المركزية والمهمة في حكم المحكمة الأخير، إذ يمتد أثرها لقضايا أخرى، طابعها سياسي وعام، يتجاوز حصول قاض على التقاعد "ولأن المحكمة الاتحادية العليا باعتبارها محكمة موضوع تصدر أحكاماً وقرارات قضائية فإذا فقد الحكم أو القرار القضائي الصادر منها ركن (كذا في الأصل) من أركان وجوده ومنها عدم اختصاصها وانتفاء ولايتها المتعلق بموضوع تعديل نص قانوني نافذ، فإن مثل هكذا حكم ولصدوره خلافاً لقواعد الاختصاص يعتبر معدوماً والحكم المعدوم كأنه لم يكن ولا يرتب أي أثر قانوني وغير قابل للتنفيذ مطلقاً…"، يفتح قرار محكمة التمييز هذا السبيلَ لنقض قرارات سابقة للمحكمة الاتحادية بخصوص تعديل قانون الانتخابات في إقليم كردستان في شباط (فبراير) الماضي وحتى إلغائها للعضوية البرلمانية لرئيس مجلس النواب السابق محمد الحلبوسي، في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، فالدستور واضح في أن إلغاء العضوية يبدأ بتصويت البرلمان على مثل هذا الإلغاء بأغلبية الثلثين.
يتعقد الموضوع أكثر عند الدخول في "حرب" الصلاحيات وتناقضها. يقول الدستور العراقي في المادة 94 على نحو واضح وقطعي أن "قرارات المحكمة الاتحادية العليا باتة وملزمة للسلطات كافة." هذا نص صريح الدلالة على أن قرارات المحكمة الاتحادية نهائية ولها العلوية ولا يمكن نقضها من جانب أي سلطة أخرى في الدولة بضمنها محكمة التمييز. من جانبها، تعتمد محكمة التمييز في تبرير نقضها لقرار المحكمة الاتحادية على قانون التنظيم القضائي الصادر في عام 1979 الذي ينص في أحد مواده على أن "محكمة التمييز هي الهيئة القضائية العليا التي تمارس الرقابة القضائية على جميع المحاكم ما لم ينص القانون على خلاف ذلك". لا يحتاج الأمر الى نقاش كثير لاكتشاف أن هذه الحجة ضعيفة، فلا يمكن أن يكون لقانون سابق صادر أن تكون له العلوية على دستور نافذ ومصادق عليه شعبياً.
في ظل الديموقراطيات الحقيقية والراسخة، يمكن لمثل هذا الجدل بين المحاكم أن يكون مفيداً مهنياً ويساهم في المزيد من نضج المؤسسات وفي تقديمها الخدمات القضائية للمجتمع. لكن هذا لا ينطبق على العراق ولا النزاع الحالي بين المحكمة الاتحادية ومحكمة التمييز. أصل كل هذا المشهد الحالي هو سياسي ويتعلق بسعي أولي للاطار التنسيقي لاستخدام القضاء، المحكمة الاتحادية تحديداً، للإطاحة بخصومه السياسيين وإخضاعهم عبر أحكام قضائية تخالف الدستور روحاً ونصاً، وهو السعي الذي يبدو أنه يشوبه بعض التراجع الآن في سياق تناقض المصالح داخل الإطار التنسيقي، وضغوط خارجية مختلفة، أوروبية وأميركية وأممية، بخصوص خطورة المضي في درب الإخضاع السياسي هذا عبر توظيف المحكمة الاتحادية سياسياً.
على مدى الأشهر الماضية، أصدرت المحكمة الاتحادية قرارات اشكالية كما في تقويضها الإطار الفيدرالي لإقليم كردستان وإعادتها صياغة بعض قوانينه، وقبلها إلغاء العضوية البرلمانية لعضوين منتخبين أحدهما رئيس البرلمان نفسه. مَثَّلت هذه القرارات اصطفافاً مقلقاً وصارخاً مع الإطار التنسيقي تجاوز كثيراً مستوى التسييس السابق للمحكمة، الذي كان دوريَ الطابع عموماً، ويتعلق غالباً بالملفات المهمة سياسياً في اللحظات المفصلية، كما في تفسير المحكمة في 2010 لمعنى الكتلة الأكبر التي لها حق تشكيل الحكومة دعماً للكتلة الانتخابية، دولة القانون، التي شكلها رئيس الوزراء حينها نوري المالكي وجاءت ثانيةً في الانتخابات البرلمانية وضد "القائمة العراقية" بزعامة اياد علاوي، الفائزة بتلك الانتخابات، وتفسيرها الآخر المنحاز في شباط (فبراير) 2022 بعد الانتخابات البرلمانية المبكرة في تشرين الأول (أكتوبر) في 2021 بخصوص اشتراط نصاب الثلثين لانتخاب رئيس الجمهورية لمنع التحالف الثلاثي بزعامة التيار الصدري من تشكيل حكومة أغلبية سياسية عارضها الإطار التنسيقي بشدة وصلت حد استخدام العنف.
منذ تولي الإطار الحكم في نهاية 2022، وفي سياق ثقة بالنفس مبالغ بها بأنه يستطيع أن يفعل ما يشاء ضد من يختلف معهم، تسارعت قرارات المحكمة الاتحادية ضد هؤلاء على نحو اقترب من أن يكون روتينياً وفي سياقات ليست ضرورية أو حساسة، بخلاف التسييس السابق الذي اقتصر عموماً على الملفات الحاسمة. في هذا السياق، جاء قرار محكمة التمييز الأخير كأحد أنواع الفرملة لاندفاع المحكمة الاتحادية باتجاه المزيد من التسييس والانحياز، وهو القرار الذي يتسق مع القلق السياسي الذي تشعره قوى إطارية أخرى من دور المحكمة الاتحادية الذي يستعدي حلفاء الأمس ويمنح هيمنة سياسية لبعض الأطراف الإطارية الداعمة لهذه القرارات والمستفيدة منها على حساب هذه القوى الأخرى.
بعيداً عن الكلام الشائع الذي يردده كثيرون في الحيز العام، لأسباب مختلفة لا علاقة لها بالحقيقة، القضاء في العراق ليس مستقلاً وأصبح جزءاً من الصراعات والصفقات السياسية. السبب في هذا هو الطبقة السياسية، وفي مقدمتها الائتلاف الشيعي المُهيمن، لأنها ترفض تنظيم السلطة القضائية على الأسس الواضحة التي نصّ عليها الدستور، في الفصل الثالث منه، وجرى إهمالها منذ إمرار هذا الأخير في استفتاء شعبي في 2005. الخطوة الأساسية والأشد إلحاحاً بهذا الصدد تشريع قانون المحكمة الاتحادية من أجل تشكيل محكمة صحيحة دستورياً على أساس المادة 92 من الدستور، بدلاً من المحكمة الحالية غير الدستورية التي تشكلت قبل كتابة الدستور ولأغراض لا علاقة لها بتفسيره! نَصَّ المنهاج الوزاري للحكومة الحالية الذي صادق عليه البرلمان على تشريع قانون هذه المحكمة في خلال الستة أشهر الأولى من عمر الحكومة. يعني هذا أنه كان ينبغي أن تتشكل هذه المحكمة في الشهر الخامس من العام الماضي، 2023، كأقصى حد! لكن الوعود البرلمانية والحكومية في العراق لا قيمة لها.
على الأكثر لن تقود الأزمة الحالية بين المحكمة الاتحادية ومحكمة التمييز إلى تصحيح مسار الأمور ووضعها على السكة التشريعية والمؤسساتية الصحيحة، فالأزمات في عراق ما بعد 2003 لا تقنع المتنازعين بتبني الإصلاح الحقيقي والمؤسساتي، وإنما اكتشاف تسوية ما تنزع فتيل الأزمة الحالية الضاغطة فيما تترك اسبابها البنيوية دون علاج، لتظهر تالياً في أزمة مستقبلية يُنزع فتيلها وقتها بالأسلوب ذاته وهكذا دواليك. هذا هو السبب الرئيسي في أن العراق دولة فاشلة اليوم بعيداً عن الاحتفاء الممل بالسيادة الوطنية وتمجيد الاستقرار الهش والقلِق على أنه إنجاز حقيقي ودائم!