أتى المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان إلى لبنان محاولاً فتح ثغرة في جدار أزمة الفراغ الرئاسي المستعصية، وغادر البلد خائباً عندما وجد أنه، هو الفرنسي، مهتم بانتخاب رئيس يملأ الفراغ ويعيد انتظام عمل المؤسسات في البلد المتلاشي أكثر من اللبنانيين أنفسهم. ومثله يشعر كل الموفدين والمتدخلين الخارجيين الساعين إلى مساعدة لبنان على تخطي أزمته المستعصية.
قد يكون لبنان أغرب بلد في العالم لجهة تكوّن السلطة فيه وممارسة الحكم منذ بات دولة "كبيرة" وحتى الآن. بلد لا تنبثق السلطة فيه إلا بأعجوبة ولا تتم انتخابات إلا بأعجوبة. بلد لا يحمل إلا بزراعة أنبوبية ولا يلد إلا بعملية قيصرية.
هذا البلد يعيش بلا دولة وبلا سياسة، كل الكلام الدائر فيه لا يمتّ إلى السياسة بأي صلة، كلام كثير في اللقاءات والتصريحات، وعلى الشاشات وفي مواقع التواصل الاجتماعي وعلى صفحات ما تبقى من صحف، كلام لا فائدة ترجى منه ولا يقدم شيئاً للبلد، اللهم زيادة التشنج والانقسام. يراوح البلد مكانه منذ عام 2005، عام التحول الكبير بعد اغتيال رفيق الحريري، وهذا موضوع آخر.
كارثي وضع هذا البلد الذي لا تخجل طبقته "السياسية" من كونها لا تستطيع أن تنتخب رئيساً، ومع ذلك تستمر متربعة على كراسيها وفي قلوب مريديها المستعدين لافتدائها بأرزاقهم ومستقبلهم ودمهم.
في بلد يعيش بلا سلطة منذ سنة ونصف لا يتحرك الشعب اللبناني ولا يحتج ولا يرفع الصوت، مريب هذا التعود على الفراغ والتأقلم غير العقلاني مع أسوأ وضع يمكن أن يشهده بلد في أي مكان في العالم حالياً. هناك بلدان فقيرة وبلدان حروب داخلية ومجاعات وحصارات، يفهم أن تتعثر الدولة فيها وتتقهقر السلطات المركزية، لكن لبنان ليس في ذلك الوضع. فراغ السلطة فيه وانعدام الهيبة هما حالة غريبة وشاذة ليس لها مثيل في أي بلد في العالم يعتبر نفسه جمهورية ذات نظام برلماني تتمتع بديموقراطية تمثيلية وانتخابات حرة وتداول للسلطة (ولو رمزياً).
من المفارق أن يهتم العالم بانتخاب رئيس للبنان أكثر من اهتمام أهله، زعاماتٍ وشعباً، تتحرك قضية الرئاسة عندما يوفد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وزير خارجيته السابق جان إيف لودريان لحث الأطراف اللبنانيين على تسهيل مهمة انتخاب رئيس وتقديم مقترحات وأسماء للتداول، أو يرسل الرئيس الأميركي جو بايدن مستشاره آموس هوكشتاين ليناقش الموضوع من جملة اهتماماته الأخرى من ملف ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل إلى ملف الحرب الدائرة بين "حزب الله" وإسرائيل على الحدود، أو عندما ترسل دولة عربية موفداً إلى لبنان يعود غالباً إلى بلاده كما أتى من دون أن يستطيع تحريك المياه الساكنة محلياً.
تتحرك اللجنة الخماسية المؤلفة من سفراء وقائمين بالأعمال بين الأطراف المعنيين بالانتخاب الرئاسي، تزور الفاعلين الأساسيين، ويخرج السفير المصري بعد كل لقاء ليدلي بتصريح منمق مختارة عباراته بدقة متناهية، حفظه اللبنانيون لكثرة تكراره، لا يحمل لهم أي أمل بتقدم ما في الملف. طبعاً الذنب ليس ذنبه ولا ذنب اللجنة التي تسعى جاهدة ومخلصة أكثر من جهد اللبنانيين وإخلاصهم.
تنصرف الطبقة السياسية واللبنانيون فور مغادرة الموفدين الأجانب وانكفاء اللجنة الخماسية إلى هموم ويوميات أخرى، بدءاً من الحرب في الجنوب إلى شؤون الحياة اليومية، بما فيها من مشكلات وفضائح وحملات دهم ومسألة النازحين السوريين والتفلت الامني... وحفلات الطرب والرقص وتبادل الشتائم والتعصب الطائفي في مواقع التواصل الاجتماعي.
ليس ملء فراغ السلطة من أولويات اللبنانيين، يعتبرون أن هناك حكومة، ولو كانت لتصريف الأعمال، ووزراء يسيّرون البلد بالحد الأدنى، وهذا كاف برأيهم بانتظار انتهاء حرب غزة والجنوب وما يمكن أن تتمخض عنه من انعكاسات على الوضع الداخلي، سلباً أو إيجاباً. هل هو اليأس؟ ربما بلغوا هذه المرحلة الخطيرة وسلموا أمرهم لله لأن من بيدهم الأمر لا يريدون رئيساً ولا يهتمون بوجوده أصلاً.
لبنان يمر حالياً في مرحلة من انعدام التوازن سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأخلاقياً، ويعاني أمنياً ولا يمكن التنبؤ بما سيحمله اليوم التالي من مفاجآت. ولولا بعض الرعاية الدولية، لأسباب عاطفية ومصلحية، وكرم الجاليات المهاجرة والمهجّرة لكان العالم أعلنه دولة فاشلة وتركه لمصيره الأسود. لكن، في هذا الجو الذي تدركه تماماً الطبقة السياسية ويعيشه الشعب اللبناني، إلا قلة منه، ويعرفه العالم أجمع، يبدو عجائبياً أيضاً أن يكون البلد ما زال قائما وحياً يُرزق.
كائن في هذه الحال يُعتبر بقاؤه بحد ذاته أعجوبة.