بدءاً من اليوم وحتى السبت المقبل، يقرر نحو 450 مليون ناخب في 27 دولة، مستقبل الاتحاد الأوروبي وآليات عمله وتوجهاته الاستراتيجية لخمس سنوات، كما يرسمون ما يشبه خريطة الطريق لتوزع القوى السياسية في أوروبا وأشكال أنظمة الحكم فيها. وتعتبر هذه الانتخابات الأخطر في تاريخ الاتحاد الأوروبي. فطبول الحرب تُقرع على جبهات عدة مع تلويح موسكو بتصعيد نووي، فيما تمعن قوى أوروبية بالرقص على شفير الهاوية في الحرب الأوكرانية. وفي الداخل، تدور حرب أخرى. ينذر اليمين المتشدد بقلب المعادلات وفرض أجنداته على أحزاب الوسط واليمين المعتدل التي كانت يوماً تتصدر آليات صناعة القرار.
وهذه الانتخابات أشبه بنافذة يطل منها المرء على المعادلات السياسية الوطنية في الدول الأعضاء. وقال معلقون إن الناخبين يتوجهون اليوم إلى مراكز الاقتراع للاحتجاج على حكوماتهم أو التذكير بشعارات مطلبية معينة لطالما رفعوها في بلدانهم. ويفيد عدد من الدراسات بأن الأوروبيين لا يفهمون أسلوب عمل الاتحاد الأوروبي أو برلمانه، وهذا لا يقلقهم البتة لأنهم غير مهتمين بالمؤسسة كلها أساساً. ولم يستبعد محللون أن معظم الذين سينتخبون لن يعرفوا من هي أورسولا فون دير لاين مثلاً، لأنهم سيصوتون بما يتناسب مع طموحاتهم وهمومهم المحلية.
وهنا بيت القصيد عند التنقيب عن جذور ظاهرة تنامي اليمين المتطرف وأسباب تحول مجموعات متشددة متحاربة إلى "مالئة الدنيا وشاغلة الناس" في أوروبا، وما الذي تريده عموماً، ومن هم أنصارها؟
ثمة عنوانان عريضان بين هذه الهموم المحلية يشار إليهما بالبنان كمصدر رئيسي لقوة اليمين المتطرف الذي تزداد فصائله بأساً. وجاء في تقارير استقصائية نشرتها وسائل الإعلام في الأسابيع الأخيرة، أن الهجرة هي بمنزلة الهمّ الجامع، إذ قلما يجد بلد أوروبي نفسه في مأمن من أخطارها التي يبالغ البعض في تصويرها وفي استثمارها سياسياً. وهي ضاغطة خاصة في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا وقبرص والسويد والدنمارك. وأُفيد ثانياً، بأن الصعوبات الاقتصادية والأزمات لجهة تكلفة المعيشة وغيرها تشكل مصدر استياء وخوف كبيرين في أنحاء القارة.
إلا أن مكانة الصدارة التي تنسب إلى هذين المحفزين، واعتبارهما أهم العوامل التي تذكي التطرف وأحزاب أقصى اليمين، هي موضع جدال. فالمعطيات الميدانية تشير إلى أن البرتغال التي عانت أزمة منطقة اليورو الاقتصادية في 2010، لم تعرف اليمين المتطرف إلا بعد سنوات عدة. كما أن اليمين المتشدد، ممثلاً بحزب "الفجر الذهبي" في اليونان، لم يكن الإجابة التي خرج بها الحراك السياسي على مشكلتي الهجرة والاقتصاد المتهالك، فحياة هذا الحزب العنصري العنيف كانت قصيرة والأرجح أنه ذهب إلى لا رجعة.
هناك عناصر أخرى تتمحور حول اختلال العلاقة بين الفرد والنظام الحاكم التي تتجلى في تفشي الفساد في أوساط حزب أو أحزاب السلطة، وفقدان الأمل (في مالطا والنمسا وقبرص والبرتغال وبلغاريا خصوصاً) بقدرة الحكومة على المضي بالبلاد إلى شاطئ النجاة من الأزمات الاقتصادية التي تخنقها أو حتى التعامل مع خطر داهم كجائحة كوفيد. وهذا إشكال يؤدي إلى تآكل النظام الديموقراطي تدريجياً من الداخل ويجري إفراغه من محتواه.
والواقع أن اليمين المتطرف دأب على الترويج لسردية الانهيار الشامل ليؤجج خوف الناس من الآتي ويزيد من كوابيسهم التي تتصل بمستقبلهم هم وعائلاتهم. وقد أثبتت سياسة التخويف هذه نجاحها في أكثر من مناسبة وفي غير دولة أوروبية، وقدرتها على إقناع عدد كاف من الناخبين بأن هذا اليمين المعادي للمؤسسة الذي يكافح النخب الحاكمة بلا هوادة سيخلصهم من الأزمات التي سببتها لهم الأحزاب التقليدية. إلا أنه يسارع فور تسلمه السلطة، كما حصل في وارسو وبودابست، إلى البدء بمصادرة الحريات وتغيير القوانين والهيمنة على البرلمان المحلي والتلاعب بالانتخابات في محاولة لتطبيق "ديموقراطية غير ليبرالية" على حد تعبير رئيس الحكومة الهنغارية فيكتور أوربان، وهي عبارة عن دكتاتورية مقنعة.
لكن أياً كانت حقيقة مواقفه، فشعبية اليمين المتشدد عموماً إلى ارتفاع. وهو حالياً يحكم، أو عضو في ائتلاف حاكم، في خمس دول أوروبية، قد يزيد عددها بنتيجة الانتخابات البلجيكية السبت المقبل والنمسوية في أيلول (سبتمبر). وقد يعود هذا النجاح في جانب منه إلى تحسين صورته وبراعته في الإيحاء بأنه قد تغير. ولم تعد أحزابه تجاهر بتوجهاتها الفاشية والعنصرية، على طريقة "الجبهة الوطنية" في بريطانيا، وبمعاداتها للسامية واستخفافها كجان ماري لو بان بالمحرقة النازية.
لكن هذا ما تقوله الأحزاب المتطرفة. وليس غريباً أن هناك من يشكك في صدقها، مستشهداً بتجربتها مع الاتحاد الأوروبي التي انطوت على تعديلات شكلية لم تمس جوهر موقفها منه. صحيح أن غالبيتها لم تعد تنادي بالخروج منه، لكنها تشكك بجدواه وتعترض على قوانينه الأساسية وتسعى إلى التمرد عليه في كل فرصة سانحة، كما تدل تجربتا بولندا وهنغاريا.
لا يكاد يغيب ذكر اليمين المتطرف عن وسائل الإعلام الغربية. ومن يرجحون فوزه الساحق في الانتخابات الأوروبية، أكثر ممن يشككون باحتمالات تصالح مجموعاته مع بعضها بعضاً لفرض أجندتها على أوروبا. ومن الصعب استبعاد ذلك إذا أعاد الأميركيون دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
وإذا حصل المتطرفون على نحو 25 في المئة من مقاعد البرلمان، ستعاني البيئة، ويشكو المهاجرون، وقد تئن أوروبا نفسها لأن اليمين سيدخل إليها لينسفها من الداخل ويمنعها من التقارب ناهيك بالتوحد. وستدل النتائج الاثنين المقبل إلى مدى تأييد الأوروبيين قرار اعتراف إسبانيا وأيرلندا وسلوفينيا والنروج بدولة فلسطينية. كما ستوضح حجم خسائر الأحزاب التقليدية التي ستتهمش لأنها عجزت عن إيجاد الحلول لأزمات عدة فسمحت لليمين بأن يقهرها. وكيف لا يتغلب على أعدائه الذين صنعوا انتصاره، فقد "جنت على نفسها براقش"!