أتمت حرب غزة شهرها الثامن مخلفة الدمار والقتلى داخل القطاع وعلى الجبهات الأخرى التي فتحتها قوى الممانعة تحت شعار وحدة الساحات، ومعرضة الشرق الأوسط لامتحانات صعبة وتهديدات جمة، ولم تنته حتى اللحظة. ورغم كل ما جرى وما قد يحدث، يستمر كل طرف باعتماد الخيار العسكري لإنجاح استراتيجيته. وبناءً عليه، تشهد جبهات المنطقة المرتبطة بحرب غزة تصعيداً ملحوظاً منذ الاجتماع الواسع الذي عُقد بين قيادات وكلاء إيران في المنطقة وقيادة الحرس الثوري الإيراني في طهران على هامش جنازة الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي الشهر الماضي. وكانت قيادات من "حزب الله" و"حماس" والحوثيين والحشد الشعبي قد التقت القيادات الإيرانية، وتحديداً الحرس الثوري، حيث تم تقييم الأوضاع وتنسيق المواقف.
ولقد ترافق التصعيد الحالي مع تصريح المرشد الأعلى للثورة علي خامنئي الذي أعلن فيه بصراحة أن الهدف الاستراتيجي لهجوم "حماس" في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي على إسرائيل كان إحباط محاولات التطبيع مع بعض الدول العربية.
ويأتي التصعيد الجديد على وقع التقارير الصحافية التي تحدثت عن تقدم كبير في المفاوضات بين الولايات المتحدة والسعودية للتوصل إلى اتفاق عسكري-أمني واسع يفتح الطريق أمام اتفاق سلام مع إسرائيل، شرط أن تقبل الأخيرة بمسار لتنفيذ حل الدولتين مع الفلسطينيين. وبالتالي، فإن هدف إيران الاستراتيجي منع حل الدولتين والتطبيع بين الدول العربية وإسرائيل قائم وقيد التنفيذ من قبل محور الممانعة، لكن بخطى تتفادى الحرب المباشرة مع إسرائيل وأميركا.
يبدو أن أحداث الأشهر الماضية كشفت تصميماً من قوى إقليمية وغربية على المضي قدماً بمشروع حل الدولتين، ضمن مخطط استراتيجي أوسع يهدف إلى استخدام موضوع التطبيع كأداة رئيسية في تقليب الرأي العام الإسرائيلي وإضعاف قوى اليمين وإخراجها من الحكم. وظهر هذا جلياً في الجولات المتعاقبة لمستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان ووزير الخارجية أنطوني بلينكن في المنطقة، وتسريب موضوع إحراز تقدم كبير في الاتفاق الدفاعي مع الرياض وارتباطه بمسألة تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وهي تزامنت مع الجهود القوية التي تبذلها إدارة الرئيس جو بايدن للوصول إلى اتفاق بين تل أبيب و"حماس" لإطلاق الأسرى وإنهاء الحرب في غزة.
التصعيد من جانب "حزب الله" في شمال إسرائيل له هدفان: الأول هو إشعار إسرائيل بألم استمرار النيران على هذه الجبهة التي لن تهدأ قبل وقف الحرب في غزة. فالحزب يريد أن تقبل إسرائيل بشرط "حماس" الأساسي وهو أن يستمر دورها في غزة بعد انتهاء الحرب. وبما أن الحزب لن يبدأ مفاوضات التهدئة على جبهة إسرائيل الشمالية، فهو يعمد إلى زيادة الضغط لإجبار إسرائيل على وقف الحرب في غزة من دون تحقيق أهدافها. تجدر الإشارة إلى أن الخلاف بين جميع القوى المعنية اليوم هو على اليوم التالي للحرب.
ففيما تريد "حماس" أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه سابقاً، أي أن تكون غزة تحت سيطرتها، تريد إسرائيل ألا يكون هناك أي دور لـ"حماس" أو للسلطة الفلسطينية، وتسعى لتشكيل إدارات محلية بتمويل خارجي. أما واشنطن والاتحاد الأوروبي فيسعيان مع قوى عربية لإعادة إحياء دور السلطة الفلسطينية بعد إصلاحات داخلها وتسليمها مسؤولية إدارة القطاع من دون أي دور لـ"حماس".
الهدف الثاني لـ"حزب الله" هو إظهار حجم قدراته بوضوح لإسرائيل، قيادة وشعباً، على أمل أن يثنيها عن الإقدام على شن عملية واسعة ضد لبنان بعد أن تنتهي من حرب غزة. ولقد لجأ الحزب إلى استخدام المسيرات الانتحارية بهجمات تكتيكية ناجحة ضد مواقع قريبة من الحدود، مستفيداً من التضاريس الجبلية التي مكّنتها من اختراق منظومات الإنذار المبكر وإلحاق خسائر مادية وبشرية في قواعد عسكرية. كما استخدم صواريخ برؤوس حربية كبيرة لإشعال حرائق في التلال والأحراج المحيطة بمستوطنات حدودية في مشهدية بثت الخوف في قلوب العديد من الإسرائيليين. ويعول الحزب على الضغط الأميركي الكبير لمنع إسرائيل من توسيع الحرب في جنوب لبنان. وإذا امتنعت إسرائيل عن شن حرب واسعة ضد لبنان وانتهى القتال بعد حرب غزة باتفاق دبلوماسي برعاية الوسيط الأميركي آموس هوكشتين، فإن "حزب الله" يستطيع أن يستثمر ذلك داخلياً ويقدمه على أنه انتصار كبير ويسعى لتحويل ذلك إلى مكاسب سياسية إضافية على الساحة اللبنانية، وتحديداً في الانتخابات الرئاسية وتشكيل الحكومة المقبلة.
لكن تبقى هناك احتمالية أن تتجاهل إسرائيل الضغوط الأميركية وتذهب إلى حرب أوسع في جنوب لبنان، من أجل الحفاظ على هيبة الردع التي تضررت كثيراً نتيجة الهجمات التي تعرضت لها الساحة الإسرائيلية من محور الممانعة منذ السابع من تشرين الأول الماضي. ولقد تمكن نتنياهو من المراوغة كثيراً ومقاومة الضغوط الأميركية، مستعيناً بالدعم الشعبي الكبير للحرب ومستغلاً حدّة الانقسام الداخلي في أميركا ودعم الجمهوريين له. وهناك من يعتقد أن نتنياهو سيسعى لاستمرار الحرب حتى الانتخابات الأميركية آملاً عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. ولقد دعا الجمهوريون نتنياهو إلى إلقاء خطاب في الكونغرس في 24 تموز (يوليو) المقبل في خطوة تحد لسياسات بايدن تجاه حكومة اليمين الإسرائيلية. كما أن واشنطن لن تستطيع وقف تسليح إسرائيل تحت أي ظرف إذا ما كانت في حرب شرسة مع "حزب الله" وإيران، بخاصة في سنة انتخابات.
أما الميليشيات الحوثية فتحاول التصعيد عبر الاستمرار بهجماتها الفعلية على السفن في البحر الأحمر والترويج لهجمات وهمية على أهداف في البحر الأبيض المتوسط. فالحوثي يسعى لإظهار أهميته وفعاليته في محور الممانعة، بخاصة بعدما أجبرته المتغيرات الإقليمية، وتحديداً الاتفاق السعودي-الإيراني برعاية صينية، على وقف هجماته على السعودية. فهو يسعى منذ الثامن من تشرين الأول لإعادة تعريف دوره محلياً كقوة إقليمية قادرة على مواجهة القوى الغربية في البحر الأحمر ومحاربة إسرائيل.
ورغم أن هجمات الحوثي لم تلحق أي ضرر بإسرائيل ولم يصل مما أطلقه على مدينة إيلات سوى القليل جداً ومن دون أضرار، إلا أن إعلامه يسوّق لجمهوره انتصارات وهمية لكسب الدعم والشرعية رغم عجزه عن حل مشكلات مناطق سيطرته الاقتصادية والاجتماعية. كما أنه يسوّق انتصارات وهمية مثل إصابة حاملة طائرات ومدمرات للأسباب ذاتها. يبقى هدف إيران الفعلي عبر الحوثي هو ابتزاز المجتمع الدولي والضغط على واشنطن لتحقيق مكاسب إقليمية. كما هي الحال بالنسبة إلى الحشد الشعبي العراقي الذي بدأ تصعيد هجماته عبر المسيرات ضد مناطق في جنوب إسرائيل وشمالها، رغم محدودية فعاليتها. وقد تشهد الساحة العراقية تصاعداً للغارات الإسرائيلية.
رغم العداء والحرب المستعرة بينها، فإن حكومة نتنياهو وقيادة "حماس" وقوى الممانعة تلتقي على رفض حل الدولتين، وبالتالي فهي غير معنية حقاً بإنجاح أي مبادرات وحلول تقود إلى ذلك. ويبدو أن هناك تطابقاً للأهداف الاستراتيجية غير مباشر بين إيران واليمين الإسرائيلي المتشدد: فالأول يرفض حل الدولتين ويسعى لوقف جهود تطبيع العلاقات مع إسرائيل، فيما يسعى الثاني لمنع حل الدولتين وإخراجه من أي معادلة لتطبيع علاقات دول المنطقة مع إسرائيل. ويعقّد هذا التلاقي جهود القوى العربية والأميركية والأوروبية لإنجاح استراتيجية حل الدولتين وما يترافق معها من خطوات تعزز الاستقرار في المنطقة وتبعد شبح الحرب الإقليمية. وعليه، فإن الحرب في غزة ستدخل شهرها التاسع ضمن مناخ تصعيدي وتشبث الأطراف المتحاربين بمواقفهم وعجز المجتمع الدولي عن وقفها وإنهاء معاناة المدنيين في ساحاتها.