الرئيس جو بايدن يحاول، إلا أنه لا يحزم، ولذلك خطواته منقوصة أحياناً وتصطدم مراراً بالعثرات. مع إسرائيل كما مع إيران، ليس لدى الرئيس بايدن وفريقه سياسة جازمة، ولذلك تبدو مبادراته متسرّعة بقدر سياساته العريضة. رغم ذلك، يجب إعطاء بايدن فرصة حسن النيّة لأنه يسعى لمنع توسّع حرب غزة إلى لبنان عبر البوابتين الإيرانية والإسرائيلية، ولأنه يحاول إيقاف النزيف في غزة. المشكلة تكمن في سياسة الانحراف أكثر نحو التفويض بدلاً من القيادة، في ما يبدو وكأنه طبخة سُلقت على عجل فباتت بلا نكهة ولاقت التشكيك والمعارضة.
كمثال، إدارة بايدن تسرّعت في تقديم مشروع قرار أمام مجلس الأمن الدولي يدعم اقتراحاً للرئيس الأميركي لوقف النار في غزة قبل أن تنسّق مواقفها جيداً، بالذات مع الجزائر بصفتها الدولة العربية الوحيدة في مجلس الأمن حالياً، وكذلك مع الصين وروسيا ودول أخرى مُنتخبة لعضوية المجلس.
الإخراج والفحوى فيهما سذاجة سياسية لأن فريق بايدن سعى للحصول على دعم دولي لمبادرته ذات المراحل الثلاث لوقف النار بين إسرائيل وحركة "حماس" قبل نضوج الصفقة. فلا "حماس" وافقت على اقتراحات بايدن التي وصفها بأنها مبادرة إسرائيلية، ولا إسرائيل توافقت على دعم المبادرة البايدانية.
الوفد الأميركي لدى الأمم المتحدة تقدم بمسودة مشروع قرار ترحب بمقترح وقف النار وتصفه بأنه "مقبول" لإسرائيل وتدعو "حماس" إلى قبوله أيضاً، وتحض الطرفين على التنفيذ الكامل لبنوده من دون تأخير أو شرط. البنود ما زالت غامضة، جزء منها ما زال سرياً. لغة المسودة غريبة عجيبة لأنها تنص على "وقف كامل وشامل لإطلاق النار" في غزة في إطار المرحلة الأولى، و"وقف دائم للأعمال القتالية" في المرحلة الثانية بناءً على اتفاق الطرفين.
تحفظات الجزائر وروسيا والصين على المسودة الأميركية تنطلق أولاً من الاعتقاد أنه يجب الحفاظ على القرار الذي كان قد صدر عن مجلس الأمن وطلب وقف النار الفوري والإفراج غير المشروط عن جميع الرهائن. لكن هناك تحفظات من نوع المزايدات، إذ تريد موسكو مثلاً التأكيد في القرار أن المرحلة الأولى من وقف النار ستظل قائمة ما استمرت المفاوضات بشأن المرحلة الثانية، وهذا يتماشى مع تصريحات كان قد أدلى بها بايدن.
بكلام آخر، نعرف أن الصيغة اللغوية في قرارات مجلس الأمن فائقة الأهمية، وأن التفاوض عليها يدخل في أين موقع النقطة والفاصلة. لكن الغريب هو الإسراع إلى طرح مبادرة في مجلس الأمن لم يقبلها الطرفان رسمياً بعد.
اللافت بالقدر نفسه من الاستغراب هو أن ينصّ قرار لمجلس الأمن على تفاصيل صفقة بين إسرائيل وحركة "حماس"، وليس مع السلطة الفلسطينية التي لها مقعد عضو مراقب في الأمم المتحدة وتعتبر الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. الغرابة أن الولايات المتحدة، صاحبة مشروع القرار، تعتبر "حماس" منظمة "إرهابية"، وها هي تستثمر كل جهودها لإقناع "حماس" بالموافقة على مبادرة بايدن وتسجيلها رسمياً في وثيقة لمجلس الأمن.
المفاوضون مع "حماس" الذين تمرّ عبرهم إدارة بايدن هم مصر وقطر، وليس السلطة الفلسطينية التي تبدو مستبعَدة من المفاوضات على مستقبل غزة. مصر غاضبة جداً من إسرائيل، لكنها أيضاً مستاءة من "حماس". كذلك قطر، كما تركيا التي لها أيضاً علاقات مميزة مع "حماس". أما إيران، فإنها تقرر علاقاتها مع "حماس" بالقطعة وليس بالجملة، تارة تلومها على عدم التنسيق معها قبل عمليات 7 تشرين الإول (أكتوبر)، وتارة تمجّد بإنجازات 7 تشرين الأول وبحركة "حماس" على مستوى مرشد الجمهورية.
"حماس" من جهتها ترى أن مصلحتها هي البقاء بأيّ وسيلة كانت، واستعادة السيطرة على غزة عبر أيّ دولة كانت، بما فيها الولايات المتحدة وإسرائيل.
لا بد أن قادة "حماس" هم في مزيج من الرعب والنشوة. الرعب من فشل المبادرة وإقدام إسرائيل على اقتحام برّي واسع لرفح وما يترتب على ذلك من تدمير للبنية التحتية أو العسكرية لـ"حماس" وقياداتها. والنشوة لأن ما تسعى وراءه الولايات المتحدة الأميركية عبر إدارة بايدن ينطوي على الاعتراف الضمني بـ"حماس" والتوسّل الصامت لها للتعاون لإيقاف الحرب في غزة، لأن استمرارها سيكون مكلفاً لجو بايدن، المرشح الديموقراطي المفترض للرئاسة الأميركية.
أما مع إسرائيل وقياداتها، فحدّث بلا حرج عن أخطاء إدارة بايدن الاستراتيجية والتكتيكية واعتمادها الازدواجية، تارة بالضغط والخلاف العلني مع حكومة الحرب ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وتارة بالإغداق على هذه الحكومة بأسلحة وطائرات متفوقة نوعياً بمليارات الدولارات الأميركية.
نجاح إدارة بايدن باحتواء حرب غزة واحتواء انزلاقها إلى حرب إسرائيلية مع "حزب الله" في لبنان عائد إلى علاقاتها السريّة مع رجال الجمهورية الإسلامية الإيرانية. الأسباب عديدة لكن من بين أبرزها نجاح فريق بايدن بالفرض على إسرائيل ألّا تقوم بعمليات عسكرية على المنشآت النووية الإيرانية وتهديدها لها بأنها ستكون بمفردها في هذا المسعى لو قامت به. ثمن ذلك، في المقابل، كان لجم طهران "حزب الله" في لبنان كي تبقى قواعد الاشتباك بينه وبين إسرائيل قائمة.
رجال إيران اليوم في تأهب انتخابي بعد وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته، علماً أن رئيسي كان يُذكَر كمرشح لوراثة منصب مرشد الجمهورية. بات الوضع الداخلي اليوم مفعماً بالمنافسات الانتخابية، ليس فقط على موقع رئيس الجمهورية، بل أيضاً استعداداً لمنصب مرشد الجمهورية. باتت مساحة المناورات أوسع وأضيق في آن واحد. باتت السياسات الاستراتيجية والتكتيكية تحت الرحمة الانتخابية في إيران كما في الولايات المتحدة.
لبنان مثال على خطورة التكتيك والاستراتيجية في زمن الانتخابات والمزايدات الإيرانية، الداخلية منها وتلك مع العدو/ الصديق الأميركي. إدارة بايدن وضعت آموس هوكشتاين في صدارة الملف اللبناني ببعديه الإيراني والإسرائيلي، علماً أنه سبق ونجح في مهمة ترسيم الحدود البحرية بموافقة إيرانية وإسرائيلية. كان الاعتقاد حينذاك أن تلك الاتفاقية التي سمح بها "حزب الله" بإيعازٍ من شريكه الاستراتيجي في طهران إنما حيّدت عملياً الجبهة اللبنانية - الإسرائيلية وألغت إلى حد كبير منطق "المقاومة" لأن الحدود البحرية تم ترسيمها برضا الجميع. كان ذلك قبل 7 تشرين الأول.
بعد 7 تشرين الأول دخل "حزب الله" من دون تفويض من الدولة اللبنانية أو من الشعب اللبناني في حرب "مساندة" لحركة "حماس"، تتأرجح اليوم بين الالتزام بقواعد الاشتباك مع إسرائيل والتصعيد من الطرفين في حرب "الأرض المحروقة" التي أدّت حتى اليوم الى مقتل حوالى 450 شخصاً من لبنان، بينهم 360 عنصراً من الحزب و88 مدنياً، بحسب وكالة "فرانس برس". وعلى الجانب الإسرائيلي أدّى ما يُعرف بالمناوشات مع "حزب الله" إلى مقتل 14 عسكرياً و11 مدنياً.
في الفترة الأخيرة برز الخوف من تحوّل المناوشات إلى مواجهات تجر لبنان كله إلى حرب مع إسرائيل بقرار من حكومة الحرب الإسرائيلية، من جهة، ومن "حزب الله" والحرس الثوري الإيراني الذي يريد العودة إلى العلن بسياساته التصعيدية، الأمر المفيد له في زمن الانتخابات والمنافسات على السلطة، من جهة أخرى.
دب الذعر في فريق بايدن، وليس فقط في قلوب أكثرية اللبنانيين، لأن اتساع الصراع مكلف انتخابياً لبايدن ويدمّر ما تبقى لدى فريقه من أمل في إنجاح سياساته نحو إيران وتجاه إسرائيل أيضاً.
أوروبا قفزت إلى حلقة الهلع، لا سيّما أنها تحاول أن تعالج مسألة النازحين السوريين عبر تفاهمات مع حكومة بشار الأسد ووعود بإعادة الإعمار. دق الاتحاد الأوروبي ناقوس الخطر ودعا إلى منع المزيد من التوترات على حدود إسرائيل ولبنان. لكن ليس لدى أوروبا اليوم ذلك القدر من النفوذ مع القيادات الإيرانية، كما لفريق بايدن، علماً أن الاثنين ليسا على الصفحة ذاتها في ما يتعلق بكيفية التعامل مع إيران بطموحاتها النووية وبأذرعها الإقليمية.
الحكومة اللبنانية اختارت تغييب نفسها كما يحدث في الجنوب اللبناني وعما قد يهدد مصير العاصمة بيروت ولبنان برمّته. اختارت سياسة النأي بالنفس التي تسلبها الجدية، فتركت الصلاحيات لطهران كي تقرر للبنان مصيره عبر "حزب الله" وكي تختار إيران إن كانت علاقاتها التهادنية مع إسرائيل أقوى من فوائد شد العضلات ضدها عبر الساحة اللبنانية.
بصراحة، ليس واضحاً إن كان كل ذلك التخبط والذعر استراتيجياً أو تكتيكياً أو حقاً سوء سياسات ومسخرة أداء. الحديث ليس حصراً عن لبنان أو الولايات المتحدة أو أوروبا، بل أيضاً عن إيران وإسرائيل و"حماس" و"حزب الله". الطمأنينة ليست خلف الباب، لكن الأفضل التمسك بالأمل بنجاح المحاولات حتى عندما تبدو عاجزة ومبعثرة.
لكن لا يليق بالرئيس الأميركي أن يكون بتلك الدرجة من التخبط. وعليه، ما نقوله للسيد بايدن هو: رجاءً الحزم بخطى ثابتة بعيداً عن الإرضاء والاسترضاء كسياسة، وإلا رجاءً ألا تحاول فيما تتبعثر خطواتك وتسقطنا معك.