لم تجرِ رياح الانتخابات التشريعية في الهند بما تشتهي سفن رئيس الوزراء القومي ناريندرا مودي، بعدما خابت آماله في الحصول على تفويض كاسح، كان يُمنّي النفس به، من أجل قولبة البلاد وفق الرؤية التعصبية الحادة التي يعكسها في خطاباته وسياساته منذ عشرة أعوام.
بقي نصرٌ بطعم الهزيمة، عندما تراجعت مقاعد حزبه "بهاراتيا جاناتا" من 303 مقاعد إلى 239 مقعداً. ولولا التحالفات التي نسجها مع أحزاب صغيرة، لما كان تمكّن من الفوز بولاية ثالثة تاريخية، لم يحصل عليها سوى جواهر لآل نهرو، أول رئيس للوزراء بعد الاستقلال.
يُلقي قادة الحزب اللوم على موجة الحرّ التي تجتاح الهند منذ أسابيع، ما حال دون الإقبال على الاقتراع وفق النسب التي كانوا يأملونها، وتالياً انعكس ذلك تراجعاً كبيراً في عدد المقاعد التي حصل عليها الحزب في البرلمان المؤلف من 543 مقعداً.
إن تعليل التراجع بالظروف المناخية ليس مقنعاً، وإلّا بماذا يُفسّر نجاح حزب المؤتمر المعارض بزعامة راهول غاندي في مضاعفة عدد مقاعد حزبه من 52 إلى نحو 100.
أسئلة كثيرة تدافعت في أذهان المراقبين حول الأسباب التي دفعت إلى تراجع "بهاراتيا جاناتا" على هذا النحو الذي أخفقت استطلاعات الرأي في توقّعه. في مقدّم الأسباب هو التفاوت في المستوى المعيشي بين الهنود، حيث أن واحداً في المئة من السكان يستحوذون على أكثر من 40 في المئة من الدخل. والبطالة مستشرية في مستويات قياسية في بلد هو الأسرع نمواً في العالم بنسبة 7.6 في المئة. قال أحد المحللين إن مودي الذي اشتهر بتوزيع حصص غذائية على الفقراء، كان الأجدر به إيجاد وظائف لهم بدلاً من ذلك. يُضاف إلى ذلك أن نسب التضخم مرتفعة جداً، وتفاقم من المستويات المعيشية في بلد هو الأكبر سكانياً في العالم مع 1.4 مليار نسمة.
اعتمد مودي على الكاريزما الشخصية وعلى إثارة النعرة القومية لـ"الأمة الهندوسية"، وحمل على الأقليات الدينية الأخرى، وخصوصاً المسلمين الذين يبلغ تعدادهم 200 مليون نسمة، ما خلق حالة من التوتر الديني، خصوصاً بعدما سنّ قوانين تمنح الأجانب امتيازاتٍ حُرم منها المسلمون الهنود.
مارس مودي سياسة اضطهاد خصومه في المعارضة، وسجن العديد منهم بتهم فساد، وصفها منتقدوه بأنها ملفقة، واتهموه باستغلال أدوات السلطة المتاحة له، كي ينتقم من شخصيات تناهض طريقته في الحكم.
صحيح أن مودي شيّد مشاريع بنى تحتية كبرى ودفع بالهند إلى مكانة عالمية متقدّمة، لكنه فعل ذلك على حساب الأغلبية الساحقة من الهنود التي بقيت مقيّدة بأغلال الفقر والحاجة، بينما يزداد الأثرياء ثراء ويستشري الفساد في أكثر من مرفق وقطاع.
لا دخل للعوامل المناخية في نتائج الانتخابات الهندية، والاستنتاج الأول هو أن مودي فَقَد سحره الشعبوي، وتبدّد تأثير كلماته المستندة إلى التحريض القومي والطائفي، أمام جحافل الفقراء الذين يبحثون عن الخبز قبل كل شيء.
أساء مودي الحسابات، وأخذ منه الغرور كل مأخذ، ليستفيق الثلثاء الماضي على رسالة بليغة بعث بها الناخبون، وهي سحب التفويض منه كحاكم مطلق يدبر ويقرّر من دون أن يلتفت كثيراً إلى البرلمان.
لقد رسم الناخبون في أكبر بلد ديموقراطي في العالم، وعلى مدى 6 أسابيع من الاقتراع، الخطوط الحمر أمام مودي، وحدّوا من اندفاعه نحو تحويل الهند إلى بلد متعصب قومياً وعرقياً، يمعن فيه القيّمون على الاقتصاد في حرمان الأغلبية من تحصيل لقمة العيش بكرامة، بدلاً من انتظار الحصص الغذائية التي يمنّ بها مودي على المحتاجين.
والأمل، كل الأمل، هو أن تكون الرسالة قد وصلت.