في المشهد الأخير دائماً ما يظهر كل أبطال المسرح، وهذه حال الساسة وقتما يشعرون بأن مشهد إسدال الستارة على الحرب في غزة قد أوشك، الكل يريد أن يحتل مكانه في الصف الأول وأن يصفق الجمهور له على أنه بطل القصة الحقيقي.
وعملياً، بعد خطاب الرئيس الأميركي جو بايدن، الجمعة 31 أيار (مايو)، الذي أذاع فيه نيابة عن إسرائيل خريطة طريق لوقف إطلاق النار في الأراضي الفلسطينية، خرج المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، في خطابه بمناسبة ذكرى رحيل المرشد المؤسس الخميني، الاثنين 3 حزيران (يونيو)، وبحضور واسع لممثلي سفارات وهيئات أجنبية، يقول إن "عملية طوفان الأقصى قد أفشلت مخططاً لدمج إسرائيل في المنطقة، لقد خلطتْ كل الأوراق.. لقد جاءتْ في اللحظة المناسبة وأفشلتْ مخطط الشرق الأوسط الجديد".
ونقل خامنئي عن الخميني وجهة نظره قائلاً: "يجب ألا يعقدوا الآمال على إمكان حل القضية الفلسطينية أو الوصول إلى نقطة عادلة عبر محادثات التسوية، ولكن عبر ميدان العمل".
كان خامنئي دقيقاً في اختيار كلماته مثلما كان دقيقاً في توقيتها، إذ كان الهدف من خطابه هو العالم الخارجي أولاً، والعالم العربي بخاصة، فقد تزامن مع جولة وزير الخارجية بالوكالة علي باقري كني في لبنان وسوريا، وكان خامنئي يريد أن يسد فراغ وزير خارجية الدبلوماسية والميدان الراحل حسين أمير عبد اللهيان.
وكانت التصريحات التي أطلقها الساسة في إيران بعد ذلك، وظيفتها تأكيد الرسالة التي بعثها خامنئي إلى الخارج، فقد قال القائم بأعمال الرئيس الإيراني محمد مخبر، أثناء لقائه أسرة عبد اللهيان، مساء خطاب المرشد الأعلى، إن "ثمرة جهود عبد اللهيان ستكون تحرير القدس".
وفي يوم الجمعة الذي تتسلط فيه الأنظار على خطبة طهران، قال رجل الدين كاظم صديقي إن "طوفان الأقصى دمرتْ خطة التطبيع تماماً".
والغضب الذي أبداه الجانب الفلسطيني المتمثل في رئاسته التي أكدت أن "الشعب الفلسطيني هو الذي يدفع ثمن الحرب الإسرائيلية واستمرارها، وأن تصريحات خامنئي هدفها التضحية بالدم الفلسطيني"، كانت نتيجة ينتظرها النظام الإيراني بأن رسالته قد وصلت إلى العالم العربي!
إيران في المعادلة
كانت رسالة إيران هي تأكيد حضور دورها ومقاومتها في أي مشهد نهائي سيتم التوصل إليه بخصوص غزة، وذلك وسط مساع أميركية بجهود عربية للتوصل إلى هدنة دائمة، بخاصة أن بايدن بدأ يشعر أن اليمين الإسرائيلي يعمل على إطاحة مستقبله السياسي والإضرار بمصالح بلاده في الشرق الأوسط.
وكان لسان حال خامنئي يقول إن كانت الجمهورية الإسلامية ترفض مبدأ التفاوض مع الكيان الإسرائيلي، لكن يجب الاعتراف بأن مقاومتها هي التي أرغمت العدو على ذلك التفاوض، ولا يمكن التنكر للدور الإيراني في معادلة المنطقة بعد طوفان الأقصى.
حقيقةً، كان خامنئي يحافظ على المعادلة الجديدة التي اكتسبتها إيران بعد "طوفان الأقصى"، باعتبار أنها أصبحت حاضرة في أي مشاورات حول القضية الفلسطينية، وهو ما ترجمته اتصالات الرياض والقاهرة مع طهران أو حتى واشنطن عبر المحادثات السرية. إن معالجة أي قضية أمنية في المنطقة، في ظل الحوار الإيراني - العربي، لا يمكن أن تتم من دون وجود طهران في المعادلة الإقليمية.
ويبدو أن اقتراب انتخابات الرئاسة والكونغرس في الولايات المتحدة الأميركية، في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، يضع طهران على أهبة الاستعداد لاحتمالية الحديث مجدداً عن الاتفاق الاستراتيجي الأمني بين واشنطن والرياض، والذي سيشمل التطبيع بين الرياض وتل أبيب.
لقد واجهت إيران معارضة صعبة من القوى الإقليمية للاتفاق النووي عام 2015، والذي تحطم على يد الرئيس الأميركي دونالد ترامب عام 2018، إذ كانت تلك القوى تريد الدخول إلى معادلة ذلك الاتفاق.
كذلك أقدمت الجمهورية الإسلامية على المعارضة نفسها لأي اتفاق بين القوى الخليجية والولايات المتحدة الأميركية من دون اعتبار إيران في المعادلة الإقليمية، وهو ما تحقق مع "طوفان الأقصى"!
ويتجدد القلق الإيراني الآن مع اقتراب الولايات المتحدة من تحقيق الشرط السعودي للتطبيع مع إسرائيل، وهو الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فرفع مسألة حل الدولتين إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، محاولة أميركية غير عنيفة لتحقيق المطلب السعودي في إطار دولي.
حضن إيراني
كان خامنئي يعبر عن قلقه من العودة إلى معادلة ما قبل "طوفان الأقصى"، وعودة القضايا الإقليمية إلى الحضن العربي، لذلك أشار إلى حال الاتفاق الإبراهيمي بعد "طوفان الأقصى" الذي ارتبكت فيه الخطط وتمت إعادة النظر فيها، فالعرب أدركوا أنهم لن يكونوا حائط صد بين إيران وإسرائيل، والإسرائيليون لن يضحوا بأنفسهم من أجل حماية السعودية من صواريخ إيران!
وكانت رحلة بشار الأسد إلى طهران الخميس 30 أيار (مايو) تأكيداً من جانب طهران بأن سوريا لن تخرج من محور المقاومة وسط الجهود العربية والغربية لاستعادة سوريا من الحضن الإيراني.
وكذلك كانت رحلتا علي باقري كني للبنان وسوريا، الاثنين والثلثاء 3 و4 حزيران (يونيو) تأكيداً لاستمرار دبلوماسية الميدان التي حافظت على حضور إيران في المعادلة الإقليمية، فمن بيروت ودمشق أعلن باقري كني أن "المقاومة هي ركيزة الاستقرار والسلام في المنطقة"، وهو تعبير يؤكد أن طهران لن تتخلى عن أذرعها، وأن إطفاء النار في غزة سيكون بسبب هذه الأذرع، وكذلك أيضاً فإن طهران قادرة على إفشال أي معادلة قد تخرجها من الحسابات الإقليمية.
إن التحركات العربية المتسارعة نحو سوريا من جانب الدول الخليجية، وقبلها نحو العراق، وإدراك الحكومات العربية أهمية احتضان الشيعة العرب، وهو ما ترجمته زيارة السفير السعودي لدى العراق عبد العزيز الشمري لمدينتي كربلاء والنجف المقدستين لدى الشيعة، وتفعيل الرحلات الدينية بين مدينتي الدمام والنجف... تضع إيران أمام مخاوف جادة من اتساع الحضن العربي للمكون الشيعي الذي احتضنته طهران لسنوات، منذ اندلاع الحرب الباردة بين الخمينية والوهابية!
والمحصلة أن الجمهورية الإسلامية تحافظ على أدواتها من أجل الحفاظ على معادلتها الإقليمية، فهي تدرك جيداً أن قبول السعودية التطبيع مع إسرائيل سيمثل ضربة قاسية لمحور المقاومة الذي تتزعمه.
ولذلك تحافظ طهران بقوة على حضورها تحت المظلة الإسلامية، فقد دعا باقري كني قبل جولته الإقليمية وخلالها إلى عقد اجتماع طارئ لوزراء خارجية الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي لمناقشة الأوضاع في غزة، وهو أمر جمع إيران وتركيا معاً في القمة الطارئة لمجموعة الدول الثماني الإسلامية النامية التي استضافتها إسطنبول، السبت 8 حزيران (يونيو)، والتي طالب بيانها الختامي تماشياً مع الرغبة الأميركية بالوقف الفوري والدائم وغير المشروط لإطلاق النار في غزة ووقف هجمات النظام الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني!