في منتصف عام 2020 اغتال ثلاثة مسلحين الكاتب والمحلل السياسي والأمني هشام الهاشمي أمام بيته، وقد اعتبر ما حدث جريمة اغتيال سياسي بعدما كان المغدور قد تلقى تهديدات من واحدة من الميليشيات المتنفذة بقتله. بعد أربع سنوات من الحادثة تم اغتيال إحدى الناشطات (بلوغر) في وسائل التواصل الاجتماعي هي غفران سوادي الملقبة بـ"أم فهد". ولأن "أم فهد" أكثر شهرة من الهاشمي الذي تم إطلاق سراح قاتله بعدما اعترف بجريمته، فإن وزارة الداخلية العراقية أصدرت بياناً أكدت فيه أنها مهتمة بمتابعة موضوع مقتل "أم فهد" وستصدر بيانات لاحقة تضم نتائج تحقيقاتها. في الوقت نفسه انشغل الرأي العام العراقي بالحكم الذي أصدرته إحدى المحاكم العراقية على سيدة تُدعى هديل خالد المشهورة بـ"أم اللول" والقاضي بالسجن مدى الحياة بسبب اتهامها بالإتجار بالمخدرات، وقد كانت مسجونة بتهمة المحتوى الهابط الذي ضمته أفلام الفيديو التي نشرتها في وسائل التواصل الاجتماعي.
وإذا ما تذكرنا قضية الفاشينستات وعلاقتهن بشبكة الابتزاز التي يديرها ضباط عسكريون وأمنيون كبار، وكانت قد اخترقت وزارة الدفاع، فإن الدائرة تكاد أن تكتمل أو أنها قد اكتملت. ناشط سياسي يتم اغتياله ومن ثم يتم إطلاق سراح قاتله وناشطة (اجتماعية) تُقتل وتعد وزارة الداخلية بمتابعة الجريمة وإلقاء القبض على القتلة، كما أن هناك شبكة يديرها ضباط كبار تقوم لغرض الابتزاز بتسجيل أفلام فيديو لشخصيات عسكرية وسياسية في أوضاع مخلة تم اكتشافها وإلقاء القبض على أعضائها ولم تُعلن نتائج التحقيق معهم ولم يُعرف نوع العقاب الذي تعرضوا له.
الاستثمار في الفساد
في بلد تسوده الفوضى وتسيطر الميليشيات على أجزاء حيوية من دولته، يمكن النظر إلى تلك الحوادث من جهة كونها ممكنة الوقوع في ظل الصراعات بين مراكز القوى التي يعمل الجزء الأكبر منها تحت الأرض. غير أن هناك حقيقة مجاورة ينبغي أن نضعها في الحسبان وهي أن الفساد المستشري في العراق كان قد أضفى على حوادث من ذلك النوع طابعاً سياسياً، لا لشيء إلا لأن بنية الدولة لا تعمل إلا على أساس ما يمليه عليها الفساد من اختراقات. فبعد أكثر من عشرين عاماً على قيام الدولة الجديدة كما أرادها الأميركيون، لم يعد الفساد ضيفاً طارئاً تفضل الدولة التستر عليه، بل تحول بحكم التطبيع إلى محرك لآلية عملها. وكل الذين يذهبون إلى العراق رغبة منهم في الحصول على المال بيسر يخفون أنهم في طريقهم إلى المساهمة في عمليات فساد، تديرها مافيات لم يعد عملها ينحصر في غسيل الأموال والصفقات الوهمية بل تجاوزها إلى إدارة صالات القمار ومجمعات البغاء والإتجار بالمخدرات والابتزاز السياسي. وليس جديداً القول إن نشاطاً من ذلك النوع يحتاج إلى حماية سياسية، غير أن المفاجئ أن تكون هناك أطراف سياسية متورطة فيه من منطلق كونه عملاً استثمارياً. وهكذا وجد الفساد ثقباً يتسلل من خلاله إلى منطقة لا يصل إليها عمل هيئات النزاهة لأن الكثير من خطوطها الحمراء غير مرئية، كما أن تخطي تلك الخطوط محفوف بخطر لا يسبقه أي تحذير.
استعادة محاكم القسوة
في الوقت الذي لا تتأخر فيه الميليشيات التي تسيطر على أجزاء حيوية من بغداد عن تصفية منتقديها وهي مطمئنة إلى أن القضاء لن يتمكن من مساءلتها وتطبيق القانون عليها، فإن هناك حرب تصفيات بين المافيات المتنافسة تتم بطريقتين: إما عن طريق القتل المباشر من خلال الاستعانة بقتلة مأجورين أو عن طريق الوشاية التي يكون بعدها القضاء عنصراً مساهماً مباشراً في حرب التصفيات. هناك في تاريخ الجمهورية العراقية الزاخر بالقسوة محكمتان يتذكرهما العراقيون باعتبارهما وصمتي عار في جبين القضاء العراقي، هما محكمة الشعب التي تأسست عام 1958 وكان يرأسها العقيد فاضل عباس المهداوي، ولذلك سُميت بمحكمة المهداوي، ومحكمة الثورة التي أُنشئت عام 1968 وبدأت عملها بالحكم بإعدام عدد من اليهود العراقيين بتهمة التجسس لإسرائيل، وكان أبرز رؤسائها علي هادي وتوت وعواد البندر الذي حُوكم في القفص نفسه الذي جلس فيه الرئيس الراحل صدام حسين.
ليست المحاكم العراقية اليوم أقل عبثية من محكمتي الشعب والثورة. في وقت سابق حكمت إحدى المحاكم ببراءة عبد الفلاح السوداني، وهو وزير سابق للتجارة ومتهم بالتصرف بثلاثة مليارات دولار خلال ربع ساعة. في المقابل، فإن محاكم عراقية عديدة حكمت بالمؤيد على أشخاص لم يُقبض عليهم متلبسين بالجرم المشهود كما حدث مع "أم اللول" التي أدينت بناءً على شهادة عشيقها السابق ولم يُسمح لمحاميها بتقديم دفاعاته المناسبة كما قال.
عارضات أزياء قتيلات أيضاً
وبالعودة إلى الفضيحة الكبرى التي سُميت بفضيحة الفاشينستات، يمكن السؤال: هل هناك عارضات أزياء من غير أن تكون هناك دور أزياء؟ تلك إذاً وظيفة مجازية. والوظائف المجازية ليست غريبة على الدولة العراقية الجديدة. ليس الوزراء في نظام المحاصصة الحزبية والطائفية إلا في ما ندر سوى كائنات مجازية. ما يهم هنا أن عارضات الأزياء تم استعمالهن من قبل شبكة ابتزاز كانت لها امتدادات داخل وزارة الدفاع. وكان هناك ضباط كبار يمارسون إدارتها. وقبل الإعلان عن اكتشاف تلك الشبكة كان هناك عدد من عارضات الأزياء قد تم اغتيالهن وطويت ملفاتهن من غير أن يتم تسليط الضوء على تلك الحوادث التي اعتُبرت فردية. غير أنها بعد اتساع عمليات الاغتيال المشابهة لم تعد كذلك. إنها جزء من حرب تصفيات يلعب العامل السياسي دوراً مهماً في احتواء تداعياتها قضائياً. ورغم أن وزارة الداخلية بدت مهتمة بما يجري من عمليات قتل، غير أن شيئاً ملموساً لم يثمر من ذلك الاهتمام إلى أن يخفت اللغط وتذهب الضحية إلى النسيان مثلما تُنسى فضيحة حين تتراكم فوقها فضائح جديدة.