بينما أكتب هذه المقالة أشاهد من نافذتي عشراتٍ من الناس يسيرون نحو مركز الاقتراع المحاذي لمنزلي. تكتسي الانتخابات الأوروبية لهذا العام طابعاً مفصلياً في تاريخ الكيان الأوروبي. ربما تكون نقطة تأريخٍ جديدةٍ لفصل مختلفٍ تماماً من قصة الاتحاد، الذي يواجه تحدياتٍ غير مسبوقةٍ، تتعلق بمدى وجوده ككيان وحدوي. تبدو الهيمنة المديدة لتيار الوسط، بشقيه اليساري واليميني، على قيادة الاتحاد تقترب من نهايتها. فكل المؤشرات توحي بهزيمةٍ لهذا التيار في مقابل صعود لليمين المتطرف، بشقيه القومي والشعبوي.
رغم جميع المؤشرات والاستطلاعات، فإن النتائج النهائية وتفاصيلها هي التي ستحسم في تشكيل مشهد البرلمان الأوروبي المقبل، وتالياً التشكيل التنفيذي لخمس سنوات مقبلة. لكن ومهما كانت طبيعة النتائج، وعدد المقاعد التي سيكسبها اليمين المتطرف، فإن الفائز الأكبر في هذا السباق هي رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، التي خدمتها الظروف والسياقات، لكي تتحول من زعيمة إيطالية إلى زعيمة أوروبية، في مواجهة تيار الوسط الأوروبي، الذي يحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قيادته، دون جدوى، بسبب تفككه الموضوعي في جميع البلدان باستثناء إسبانيا، وبسبب مشاكله المعلنة وغير المعلنة مع المستشار الألماني. في المقابل تسعى جورجيا ميلوني، التي أعلنت نفسها على رأس قائمة حزبها، لتشكيل ائتلاف محافظ واسع النطاق في البرلمان الأوروبي، يضم حتى الأحزاب اليمينية التي لا تتقاسم الرؤية المحافظة مع ميلوني، وهي أساساً الأحزاب التي تقودها في قطب مقابلٍ زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبن. فالزعيمة الإيطالية تستفيد إلى حد بعيد من رؤيتها القائمة على إيديولوجيا "الدين والعائلة" في محيط أوروبي، يعود بقوة خلال السنوات الأخيرة إلى هذا الثنائي للبحث عن المعنى. وهي الأداة السحرية التي تفتقدها مارين لوبن، التي لا تزال تؤيد رؤية شديدة العلمانية، ترتبط أساساً بخصوصية فرنسية غير شائعة في القارة الأوروبية. كما تستفيد ميلوني من كونها تعمل من داخل السلطة، بوصفها تشغل المنصب الأهم، على رأس حكومة ثالث أكبر اقتصاد في الاتحاد، وأيضاً تستفيد من دعم رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، الذي تشكل معه ثنائياً قوياً ومؤثراً، ويريدان معاً ضم ما تبقى من أحزاب يمينية خارج الائتلاف المحافظ، والذي يجعل هوية أوروبا المسيحية في مقابل خطر الهجرة و"الغمر" الثقافي والعرقي.
من الواضح اليوم أن اليمين المتطرف قد حقق الهدف الأول: فقد قام بتطبيع نفسه ونزع تهميشه، وانتصر على الأقل جزئياً في المعركة الثقافية، وهو يتجه نحو يمينية متطرفة في النقاش العام. وهذا أمر واقع بالفعل في جميع الدول الغربية. والسؤال المطروح الآن ليس ما إذا كانوا يريدون نقل البلدان التي يحكمونها أو سيحكمونها نحو أنظمة ديموقراطية غير ليبرالية ولكن معرفة ما إذا كان الصراع من أجل الهيمنة في الفضاء اليميني المتطرف قد بدأ وما ستكون العواقب. ويبدو أن هذه الانتخابات هي من سيفتح هذا الصراع المؤجل بين أطراف هذا السديم اليميني الواسع. فقد أدت الحرب في أوكرانيا إلى المزيد من تقويض التوازن الهش بين مختلف أحزاب عائلة اليمين المتطرف الكبرى. وعمقت الرؤى الاقتصادية المختلفة بين هذه العائلة في معالجة أو تصور حلول للأزمة التي خلفتها الحرب والموقف من روسيا بوتين، هذا التوازن، حيث لم تعد الإيديولوجيا كافيةً لمنع الانقسام. ويبدو أكثر وضوحاً أن جورجيا ميلوني، بحكم ما تملك من امتيازات شخصية وسياسية، هي من سيحسم هذا الصراع لفائدتها في المدى القريب والمتوسط، سيما وأنها عبرت منذ دخولها الحكم عن برنامج جديد للهيمنة على أوروبا بدلاً من أفكارها القديمة حول الانعزال عن القارة. لكنها اليوم تعمل بشكل فعال إلى الانتقال من الاتحاد الحالي إلى "اتحاد أوروبي يضم دولاً قومية حرة وذات سيادة، قادرة على التعاون في القضايا الرئيسية: الأمن، والسوق الموحدة، والدفاع، والهجرة" ولكنهم أحرار في تقرير المصير بشأن ما يمكن تحديده بشكل أفضل على المستوى الوطني. وهي بذلك لا تقدم فقط رؤية أكثر اعتدالاً بل تسعى بذكاء إلى حشد قطاعات واسعة من القاعدة الاجتماعية ليمين الوسط، التيار الأكثر اتساعاً في أوروبا.
قد أصبح من الواضح الآن أن اليمين المتطرف الجديد موجود ليبقى، في أوروبا كما في أميركا اللاتينية والهند. ولم يبق لخصومه إلا وضع برنامج للتعامل معه، سواءً كان ذلك بالصراع أو بالمساومة، لأن فكرة إنكاره وجودياً وسياسياً لم تزده إلا توهجاً وتوسعاً لدى الناس، بوصفه تياراً محتقراً لدى النخب. والأهم من ذلك الخروج من نفق الخوف نحو نقاش وتشريح الأزمة المتعددة المستويات التي تعاني منها الديموقراطية الليبرالية والتعددية.