في عام 1933، شجّع المحافظون الألمان الرئيس بول فون هيندنبورغ على منح الزعيم النازي أدولف هتلر منصب المستشار، ظناً بإمكان تطويع سياسته والسيطرة عليه. لكن الحقائق أثبتت فداحة هذا الوهم.
ونحن نترقب الانتخابات الأميركية نستذكر بتوجّس، كيف صعد الشعبويون الى الحكم عبر التاريخ، بدءاً من موسوليني وبيرون إلى بوتين إلخ... فبفضل زعماء منتخبين من صلبها تآكلت الديموقراطية تدريجياً.
وإذ يتعالى انتقاد الزعماء الشعبويين للمعايير الديموقراطية والهجوم على الضوابط والتوازنات المؤسسية، المصمّمة أصلاً لمنع أغلبية عابرة من الاستفراد بالجهاز التنفيذي في الخطاب السياسي العام، تثير ميول هؤلاء إلى تغيير بنية النظام السياسي، الكثير من القلق لدى الباحثين الأميركيين.
منذ تأسيسها، نصب الآباء المؤسسون متاريس لحماية الديموقراطية الأميركية من طغيان الأغلبيات عابرة.
المتراس الأول كان تطوير السياسات التفاوضية بين الأحزاب وقادتها، كخط دفاع أول، لتوليد التوافقات العابرة للأحزاب، إذ ترجع إليهم، في نهاية الأمر، مهمّة تخفيض التمترس في المجتمع، والوقوف في وجه محاولات قمع الرأي الآخر، بل وإلغائه. لذلك يصبح السلوك العملي للقياديين من الحزبين متراساً لتحصين الديموقراطية ضدّ التحلّل، في مواجهة حشد القادة الشعبويين جماهيرهم، لخنق الليبرالية الديموقراطية وثني عنق المؤسسات المضادة للأغلبية أو كسرها.
يكمن المتراس الثاني في دور المؤسسات الفيدرالية الحيادية الضابطة للديموقراطية. في تجارب العديد، غزت الشعبوية ديموقراطيات راسخة وتنامى التفكّك والضعف في بنيتها، بسبب محاولات الزعماء تحويل المؤسسات الحيادية الضابطة للديموقراطية، مثل القضاء أو وزارة الخزانة، ووزارة العدل والشرطة، إلى ساحة للصراع الحزبي.
وفي المقابل، عندما حاول فرانكلين دي روزفلت تعبئة المحكمة العليا عام 1937، وحاول ريتشارد نيكسون تخريب خصومه الديموقراطيين في انتخابات عام 1972، أوقفهم الكونغرس، بفضل "عقد حماية الديموقراطية" في بنية نموذج الدولة الأميركية.
يتمثل المتراس الثالث للديموقراطية الأميركية في المؤسسات الفيدرالية الحيادية التي تشكّل ضماناً لحق الأقلية غير الحاكمة في العمل للدخول إلى الحكم، وحقها في المشاركة، والتفاوض، والتوافق، على القرارات المتخذة بشأن مستقبل البلاد.
فلقد صُمِّم الإطار المؤسسي الأميركي لمنع الهيمنة غير المقيّدة للأغلبية الحالية، عبر مجموعة استثنائية من المؤسسات الفيدرالية التي تضمن إعطاء الأقليات السياسية آليات مؤسسية للدفاع عن مصالحها وحقوقها الأساسية، وحقها في ضمان قدرتها على المنافسة عبر القضاء ومنظومة الانتخابات.
تؤدي هذه الوظيفة هيئات متعددة: الهيئة الانتخابية الفيدرالية، ومجلس الشيوخ بتمثيله غير المتناسب للولايات الصغيرة، ودوره التعطيلي لطغيان الأكثرية، إضافة للمحكمة العليا بمراجعتها القضائية وقضاتها لمدى الحياة.
المتراس الرابع: تشكّل البنية الفيدرالية للدولة عاملاً حاسماً ضدّ استفراد الأغلبية العابرة. فلقد قامت حكومات الولايات والحكومات المحلية، سواءً أدارها الديموقراطيون أم الجمهوريون، بمعارضة محاولات الأكثرية الفيدرالية بشكل منهجي. وفي مناسبات عديدة منعت إدارة مجالس الكونغرس في الولايات تدخّل الشعبويين في الانتخابات الرئاسية.
لكن الزعماء الشعبويين يرفعون مستوى التمترس المجتمعي بهدف تهميش خصومهم، وتوسيع سلطتهم وتغيير القوانين، ليخرج الاستقطاب عن السيطرة، ويتنامى لجوء الأطراف المتعارضة الى تدابير يائسة للحفاظ على مكاسبها.
مع نهاية الحرب الباردة، عاد الاستقطاب الحزبي إلى حلبة الصراع في أميركا، وبدأ تراجع المعايير الديموقراطية. وكما كان الحال في الأيام الأولى للجمهورية، وإبان الحرب الأهلية، صار كل جانب ينظر إلى الآخر على أنه غير شرعي، وكان على استعداد لتدمير الديموقراطية من أجل الوصول إلى السلطة. وزادت إعادة تشكيل الدوائر الانتخابية في الولايات لتعزيز قوة كل من الحزبين في كونغرس الولايات في نهاية الثمانينات، الاحتدام الحزبي المستمر حتى اليوم.
ولتفسير هذا الاستقطاب لنا أن نلاحظ أن الديموقراطيين يمثلون، في المقام الأول، الليبراليين، والأقليات، وغير المتدينين، والشمال. أما الجمهوريون، فصارت قاعدتهم الأساسية تتمثل بالبروتستانت البيض المحافظين في الجنوب والغرب الأوسط، الذين يخشون فقدان مكانتهم مع تقدّم الولايات المتحدة كمجتمع متنوع متعدد الأعراق.
لكن، ونظراً إلى أن التحوّل المجتمعي نحو التنوع يتمتع بجذور ديموغرافية راسخة، فإنه لا بدّ من أن يستمر. وتقابل هذا التحول قطاعات متنامية من الحزب الجمهوري بالإحباط وبالمزيد من التشدّد. وهو ما عبّر عنه الرئيس السابق لمجلس النواب الجمهوري نيوت غينغريتش، بأن السياسة "حرب من أجل السلطة".
لا تقع مسؤولية تراجع المعايير الديموقراطية الأميركية على طرف واحد من الحلبة السياسية، بل تقف على يسار الحزب الديموقراطي أيضاً تيارات راديكالية يؤيّد أعضاؤها والمتعاطفون معها العنف السياسي، ويحملون وجهات عقائدية ضدّ نظرائهم الجمهوريين، لتتراجع باطراد المتاريس التي تحصّن الممارسة الديموقراطية.
ومقابل زخم الأغلبية الشعبوية في الحزبين، تستمر الجهود لتعزيز المتاريس الضامنة لحقوق الأقلية ومنع تقويض آليات منع استفراد الأغلبية.
يشكّل مثال أميركا اللاتينية وبعض دول أوروبا أمثلة مهمّة لتوضيح مآلات ضعف المؤسسات المناهضة للأغلبية كانت أحد أهم ملامح الانعطاف نحو الشمولية. في إصلاحاتهم الدستورية، ركّز الزعماء الشعبويون: فوجيموري بيرو وتشافيز فنزويلا ونتنياهو إسرائيل ومودي الهند وأوربان هنغاريا والشعبوي اليميني في كولومبيا ألفارو أوريبي إلخ، جهودهم نحو كسر المؤسسات الحيادية المناهضة لاستفراد الأغلبية. وألغوا، في كثير من الأحيان الغرفة العليا للكونغرس حيثما وُجدت، لتسهيل سيطرتهم على السلطة التشريعية. وأغلق أو أضعف العديد منهم - فوجيموري وتشافيز - المحاكم العليا، ليتيحوا قمع المعارضة السياسية، والإعلام، وتقييد المجتمع المدني.
على النقيض من ذلك، كانت المحاكم القوية والمستقلة والناشطة حاسمة في احتواء الشعبوي اليميني المتشدّد في البرازيل جايير بولسونارو. كما أنه بعد فوز قوى المعارضة بأغلبية مجلس الشيوخ في عام 2019، أعاقت المحاكم ووجود المجلس بغرفتين، جهود تركيز السلطة التي بذلها الشعبويون اليمينيون في بولندا، في محاكاة لتجربة أوربان في هنغاريا.
تعتقد أغلبية الباحثين أن ضمانات حق الأقلية في المشاركة السياسية، في المنظومة القانونية والتشريعية الأميركية، لا تزال قوية إلى حدّ كبير، رغم أنهم يعترفون بأن استمرار الاستقطاب لا بدّ من أن يشكّل خطراً على "عقد الدفاع عن حقوق الأقلية". ولا تزال أغلبية الخبراء تعتقد، أنه رغم الاضطرابات غير العادية التي نشهدها الآن، فلقد بقي العنف السياسي عند مستويات منخفضة، مقارنة بالاضطرابات العميقة في أواخر ستينات القرن العشرين إبان الحرب الفيتنامية.
اذن، مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، يتصاعد الاحتدام وتشتد نبرات الخطاب في الحلبة السياسية، ويخوض الشعب الأميركي معركة البقاء، لصيانة ديموقراطيته وتعدديته. أما نحن، فسنتابع الانتخابات بشغف وقلق، بل وبقدر من الخوف.