ازدحم المشهد السياسي الجزائري في الأسبوع الماضي بأحزاب الموالاة التي تنافس غيرها على ترشيح الرئيس الحالي عبدالمجيد تبون مرة أخرى للعهدة الثانية، ووصل الأمر بهذه الأحزاب إلى تبادل الرشقات الكلامية التي تدعى في الجزائر "الملاسنات" بين قائد هذا الحزب وقطب الحزب الآخر، كما حدث مثلاً بين قيادات حزب جبهة التحرير الوطني وحزب حركة البناء الوطني قبل أيام، بسبب قيام هذا الأخير بمفرده بالإعلان عن ترشيح تبون للرئاسيات المقبلة من دون علم واستشارة "تحالف الأغلبية البرلمانية" الذي يضم حزب جبهة التحرير الوطني، والتجمع الوطني الديموقراطي، وحزب المستقبل، وحركة البناء الوطني سابقاً، الأمر الذي أدى إلى تجميد عضوية هذه الأخيرة في التحالف.
في إثر نشوب هذا الخلاف داخل عقر بيت الموالاة، أعلن حزب جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديموقراطي وحزب المستقبل عن عقد ندوة وطنية جامعة قريباً، للإعلان عن ترشيح تبون للرئاسيات التي ستُجرى في 7 أيلول (سبتمبر) المقبل.
العجيب في الأمر هو أن عشرة أحزاب، هي حركة البناء الوطني وحزب الفجر الجديد وجبهة الجزائر الجديدة وحزب الكرامة وحركة الوفاق الوطني وحزب الحرية والعدالة وحزب الوسيط السياسي والحزب الأخضر للتنمية وحزب التجديد الجزائري واتحاد القوى الديموقراطية والاجتماعية، عقدت في يوم الثلاثاء الماضي ندوة بمقر حزب حركة البناء الوطني، وأكدت في بيان صادر مباشرة بعد انتهاء الندوة أن مرشحها هو الرئيس الراهن عبد المجيد تبون، مبررةً موقفها بكون هذا الأخير قد قام بواجباته ونفذ برنامجه الانتخابي الذي أعلن عنه قبل أربع سنوات ونصف خلال حملته الانتخابية. وأكثر من ذلك، رأت فيه هذه الأحزاب العشرة الشخصية الوطنية التي تستطيع تحقيق الطموحات المشروعة للشعب الجزائري.
في هذا السياق، ينبغي طرح ثلاثة أسئلة: لماذا يجرّ حزب حركة البناء الوطني الإسلامي هذه الأحزاب العشرة خلفه لدعم تبون الذي لا ينتمي تنظيماً لأي حزب أو أي تكتل حزبي، خصوصاً بعد وصوله إلى قصر المرادية رئيساً للبلاد، علماً أنه أكد مراراً أنه كان مرشحاً حراً في الانتخابات الرئاسية التي فاز بها سابقاً؟ فضلاً عن ذلك، لم يطلب تبون رسمياً من أي حزب أن يرشحه للرئاسيات التي ستشهدها الجزائر بعد أقل من خمسة أشهر.
وأين هي مواقف أحزاب المعارضة من سلوك أحزاب الموالاة؟ وهل يمثل سكوت المعارضة وإجماع تكتل أحزاب الموالاة على ترشيح تبون لمنصب رئيس الجمهورية خطراً على التعددية السياسية في الجزائر، وعودة بطيئة إلى الأحادية التي كانت أحد الأسباب التي أدت إلى انفجار العشرية الدموية ومن ثم إلى حراك شعبي أطاح الرئيس (الراحل) عبد العزيز بوتفليقة الذي استولى على الحكم بمعية جماعته المعروفة بـ"العصابة" على مدى 20 سنة كاملة، وتسبب في تعطيل مسار مشروع الديموقراطية الهش في المشهد السياسي الجزائري المعاصر؟
بخصوص السؤال الأول، يرى مراقبون سياسيون جزائريون أن عبد القادر بن قرينة، زعيم حزب حركة البناء الوطني الاسلامي، يعرف أن الأحزاب الإسلامية الجزائرية فقدت أي تأثير يذكر في المشهد السياسي الجزائري، أو في الجزائر العميقة على المستوى الشعبي، خصوصاً بين الشباب والشابات. جراء ذلك، نجد بن قرينة قد شرع منذ مدة، خصوصاً خلال الحراك الشعبي وبعده، في ممارسة أساليب شعبوية استقطابية لجذب الأحزاب الصغيرة، سواء ذات التوجه الإسلامي المعتدل جداً أو ذات التوجه الليبرالي، ضمن الاطار الذي ما فتئ يرسمه النظام الجزائري الحاكم، وفي المقدمة الأجهزة الأمنية ذات النفوذ القوي.
يرمي بن قرينة من وراء هذا النوع من التكتيك السياسي إلى تحقيق هدفين: أولهما إقناع صقور النظام الجزائري بأن حزبه لن يكرر أبداً أساليب حزب جبهة الإنقاذ الإسلامية المحظور، أما الهدف الثاني المرسوم بوضوح عنده فيتلخص في البحث عن موطئ قدم لحزبه في الحكومات المقبلة، في إطار الشراكة السياسية التي ينادي بها منذ أن أدرك أن وصوله إلى قصر الرئاسة بمرتفعات المرادية زعيماً للبلاد ليس في متناول اليد راهناً، ولا على المدى الطويل أيضاً. ويمكن قراءة تحركات زعيم حزب حركة البناء الوطني قراءات متعددة كأن تؤوّل، مثلاً، في جزء منها بأنها تنفيذ غير مباشر لسيناريو النظام الجزائري الذي يريد شرذمة الأحزاب الإسلامية وتشظيتها. ويبدو للمحلل العارف بالمطبخ السياسي الجزائري من الداخل أن بن قرينة هو الرجل الملائم لأداء مثل هذه المهمة في الوقت الحاضر.
أما خلو الساحة السياسية الجزائرية من المعارضة حالياً فذلك عرض لتشتت بقايا فسيفساء هذه المعارضة من جهة، ونتيجة لانعدام العقيدة السياسية الواضحة لديها في الغالب، فضلاً عن عدم بنائها لأية علاقة مصيرية مع المجتمع المدني الذي احتوى أجزاء كبيرة منه النظام الجزائري وفرّغها من الرؤى السياسية.
ففي ظل هذا الوضع، شرعت أحزاب المعارضة في حلّ نفسها بنفسها، رمزياً على الأقل، كما أنها لم تستطع تنظيم نفسها على نحو يستقطب إليها الشخصيات الوطنية ذات السمعة الجيدة على مستوى العمق الشعبي. هذا وقد عجزت حتى الآن عن خلق أرضية واضحة يمكن أن تتجمع على أساسها أحزاب المعارضة والقوى الوطنية التي تعارض واقع الأحادية التي تظهر حيناً في صورة الرئيس وجماعته، وحيناً آخر في صور أحزاب الموالاة المتحالفة التي ترمي بنفسها في أحضان النظام الحاكم الذي يسوغ الأحادية السياسية التي تحكم بآليات مركزية، وبرأي واحد يُصنع في أعلى هرم السلطة.