في مثل هذه الأيّام قبل ربع قرن، جلس الملك عبد الله الثاني على عرش المملكة الأردنيّة الهاشمية خلفاً للملك حسين، باني الأردن الحديث الذي توفّي في 7 شباط (فبراير) 1999. كان الجلوس في 9 حزيران (يونيو) من تلك السنة.
ثمّة ما تغيّر في ربع قرن، وثمّة ما لم يتغيّر. يعود ما تغيّر إلى امتلاك عبد الله الثاني شخصيّة خاصة به يميّزها الكلام المباشر العميق سياسياً الذي يترافق مع تسمية الأشياء بأسمائها. قد يعود ذلك إلى عاملين: أولهما معرفة عبد الله الثاني بالعالم، بما في ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا عن كثب، وثانيهما الخلفية العسكريّة للعاهل الأردني. فقد أمضى عبد الله الثاني سنوات طويلة في صفوف "الجيش العربي" ضابطاً مارس الخدمة الفعليّة، وشارك في دورات كثيرة خارج المملكة. هذا يجعل منه شخصاً مباشراً وعملياً عند تعاطيه مع الواقع.
ما لم يتغيّر هو استخفاف كثيرين بدور الأردن، القريب من فلسطين، وأهمّية هذا الدور الذي يتبيّن في كلّ يوم أنّه حاجة إقليميّة وعامل استقرار في منطقة معرضة لكلّ أنواع العواصف. لم يتوقف التشكيك في الأردن يوماً، وذلك منذ ولادة إمارة شرق الأردن في 25 أيّار (مايو) 1923. يظلّ أفضل ردّ على المشككين سؤال في غاية البساطة: لماذا الأردن صامد وبات حقيقة، فيما مصير دول أخرى في المشرق العربي في مهبّ الريح؟ المعني بالدول الأخرى العراق وسوريا ولبنان تحديداً.
منذ استقلال الأردن وتحوله مملكة في عام 1946، واجهت هذه الدولة سلسلة من التحديات استطاعت التغلب عليها. بين هذه التحديات الموجة الناصريّة، نسبة إلى جمال عبد الناصر، الذي لم يتردد في شن حملات ذات طابع شخصي من النوع السوقي والرخيص في تناوله الملك حسين. كذلك، واجه الأردن مزايدات البعث السوري وممارساته الإرهابيّة قبل أن يتصالح مع العراق ونظام صدّام حسين البعثي – العائلي الذي استطاع مواجهة إيران – الخمينيّة بين 1980 و1988، لكنّه ما لبث أن سقط في تجربة الكويت التي اجتاحها صيف عام 1990.
نقلت مغامرة صدّام حسين الكويتية المنطقة إلى مكان آخر وصولاً إلى التغيير الكبير المتمثّل في الاجتياح الأميركي للعراق وتسليمه على صحن من فضّة إلى "الجمهوريّة الإسلاميّة" في إيران في عام 2003. حاول عبد الله الثاني تلافي الاجتياح الأميركي لهذا البلد العربي، لكنّه وجد أذناً صماء لدى الرئيس الأميركي جورج بوش الابن الذي أصرّ على "التخلّص" من صدّام حسين، غير مدرك النتائج التي ستترتب على ذلك.
في الإمكان العودة إلى تجارب مرّة كثيرة مرّ فيها الأردن، خصوصاً المواجهة مع المنظمات الفلسطينيّة المسلّحة في أيلول (سبتمبر) 1970. أرادت هذه المنظمات إسقاط النظام الملكي من منطلق أن "طريق القدس تمرّ بعمان".
لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح منذ سنوات طويلة: ما سرّ صمود الأردن؟
الجواب بكلّ بساطة هو أن الأردن دولة مؤسسات. هذا ما لا يدركه النظام الإيراني الذي يسعى منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي إلى زعزعة الاستقرار في الأردن، الذي يرفض الرضوخ لرغبات طهران خلافاً لما حصل في سوريا والعراق ولبنان.
يظل الأردن، بالنسبة إلى "الجمهوريّة الإسلاميّة"، الطريق الأقرب لوضع اليد بالكامل على القضيّة الفلسطينية. يفسّر ذلك الإصرار الإيراني على تهريب السلاح إلى الأردن نفسه، من طريق الأراضي السوريّة... ومحاولة إدخال قسم من هذا السلاح إلى الضفّة الغربية بغية تكرار تجربة "حماس" في غزّة، هذه التجربة التي أدت إلى نتائج كارثيّة. يترافق تهريب السلاح مع سعي إلى تهريب المخدرات (الكبتاغون تحديداً) عبر الأردن، إلى الدول العربيّة الخليجية.
يتجاهل الذين يشككون في الأردن أنّ عليه أيضاً مواجهة الحملات التي يشنها اليمين الإسرائيلي الذي يمارس في هذه الأيام كلّ أنواع الوحشية في حقّ الشعب الفلسطيني. يتجاهل هؤلاء المشككون مقومات الصمود الأردني وصمود عبد الله الثاني بالذات.
من دون الخوض في التفاصيل، يمكن الحديث عن ثلاثة عناصر لهذا الصمود الأردني. لولا هذا الصمود لما كان للمملكة الأردنيّة الهاشمية القدرة على استضافة "مؤتمر دولي للاستجابة الإنسانيّة الطارئة في غزّة". انعقد المؤتمر في مركز الملك حسين للمؤتمرات في البحر الميت، بتنظيم مشترك بين المملكة الأردنية الهاشمية ومصر والأمم المتحدة. لا يستطيع الأردن اتخاذ موقف غير مبال عندما تتسبب حرب غزة بكارثة إنسانية لنحو مليونين وثلاثمئة ألف فلسطيني.
يتكل الأردن في صموده على التماسك الكبير بين مواطنيه من مختلف مكوناتهم أولاً. ثانياً، صارت الهوية الأردنيّة جامعة. شملت، أيضاً، المواطنين الأردنيين من ذوي الأصول الفلسطينيّة الذين باتت مصلحتهم تكمن في حماية المملكة ومؤسسة العرش بالذات. لا شكّ في أن معظم فلسطينيي الأردن تعلموا من التجارب السابقة، ويتذكرون أن الأردن حمى الفلسطينيين من أنفسهم في أحداث 1970 المؤلمة.
يبقى العنصر الثالث الذي يلعب دوراً أساسياً في صمود الأردن، ويتمثل في فعالية المؤسسات الأمنيّة الأردنية من جيش وأجهزة أمنية. لعب عبد الله الثاني دوراً في غاية الأهمّية في تطوير هذه المؤسسات، مكملاً بذلك ما قام به الملك حسين، على الرغم من كلّ الصعوبات التي واجهت المملكة، خصوصاً الصعوبات الاقتصادية وتلك الناجمة عن اللجوء السوري الذي تسبب به نظام يشن حرباً على شعبه.
عند التطرق إلى هذه العناصر الثلاثة، لا يعود الصمود الأردني سراً، إلّا عند الذين كانت لديهم دائماً عقدة الأردن بحسناته الكثيرة وسيئاته القليلة.