لم تمر الانتخابات الأوروبية التي أجريت بين 6 و9 جزيران (يونيو) الجاري مرور الكرام. بل انها بدت كمحطة مفصلية في تاريخ الاتحاد الأوروبي. ومع أن مؤسسات الاستطلاعات توقعت أن تجتاح أوروبا موجة يمينية متطرفة، فإن الموجة أتت أقل من اجتياح وأكثر من تقدم. فمعظم استطلاعات الرأي في مختلف الدول الـ27 الأعضاء أتت واقعية وقريبة جداً من النتائج النهائية لتعكس تقدما كبيراً لأحزاب اليمين المتطرف، على حساب أحزاب الخضر وبعض الأحزاب الاشتراكية.
وطبعاً، تفاوتت النتائج بين بلد وآخر. لكن النتائج المرتبطة بالدول الأوروبية المركزية، فرنسا، ألمانيا وإيطاليا، ترجمت التوقعات بتقدم كاد يشبه في فرنسا الاجتياح الكاسح مع بلوغ نسبة الأصوات التي حصلت عليها أحزاب اليمين المتطرف على اختلافها أكثر من 40 في المئة، حصد منها حزب "التجمع الوطني" بقيادة مارين لوبن وحده نسبة 30 في المئة، تاركاً حزب الرئيس إيمانويل ماكرون الحاكم في الجمعية الوطنية خلفه بأقل من 15 في المئة، فيما تحسن أداء الحزب الاشتراكي بقيادة رافاييل غلوكسمان (شريك حياة نجمة التلفزيون الفرنسي اللبنانية الأصل ليا سلامة ابنة الوزير والمبعوث الأممي غسان سلامة) فبلغ حوالى 14 في المئة. أما حزب "فرنسا الأبية" اليساري بقيادة جان لوك ميلانشون فحصد ما يقارب 10 في المئة من الأصوات.
وإذا كان التقدم التاريخي الذي حققه حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف قد شكل مفاجأة الانتخابات الأوروبية، إذ صدمت صناديق الاقتراع أركان الحزب نفسه قبل أن تفاجئ الرأي العام الألماني بتقدم كبير بعدما كان يتوقع أن يحقق تقدماً متواضعاً، فإن النتيجة التي حققها حزب مارين لوبن في فرنسا وصف بأنه الزلزال الذي كان ينتظره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وهو في منتصف ولايته الرئاسية تقريباً. ومن هنا كان من الطبيعي في إطار اللعبة الديموقراطية أن يبادر الرئيس إلى حل الجمعية الوطنية، والدعوة إلى انتخابات عامة مبكرة. وقد عمد ماكرون إلى تقريب موعد الانتخابات إلى نهاية الشهر الجاري في محاولة لخلط الأوراق، وإرباك المنتصرين الذين سارعوا إلى إطلاق حملاتهم الانتخابية ابتداءً من يوم الاثنين الماضي، وفي الوقت عينه لدفع قوى وسط اليمن ووسط اليسار إلى حسم خياراتها بالتحالف معه في إطار جبهة عريضة لقطع الطريق على وصول حزب "التجمع الوطني" إلى رئاسة الحكومة تمهيداً للوصول إلى الرئاسة الأولى سنة 2027.
وحده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عمد إلى اتخاذ قرار دراماتيكي بحل الجمعية الوطنية والاحتكام إلى صناديق الاقتراع بعد أقل من عشرين يوماً. في ألمانيا آثر المستشار أولاف شولتس وخلفه "الحزب الديموقراطي الاجتماعي الألماني" الذي يمثل يسار الوسط الإبقاء على الوضع كما هو، على قاعدة أن صدمة تقدم اليمين المتطرف أتت خصوصاً على حساب حزب الخضر، فيما حافظ "حزب الاتحاد الديموقراطي" من يمين الوسط الذي تمثله رئيسة المفوضية الأوروبية الحالية أورسولا فون دير لاين على شعبيته بنسبة 30 في المئة من الأصوات، الأمر الذي دعا كلاً من حزبي وسط اليسار ووسط اليمين إلى اعتبار تقدم حزب "البديل من أجل ألمانيا" قابلاً للاحتواء سياسياً من دون الحاجة إلى المغامرة بالتوجه إلى صناديق الاقتراع أسوة بفرنسا.
خطوة الرئيس إيمانويل ماكرون رمى من خلالها إلى خلط الأوراق، مستخدماً مرة جديدة "فزاعة" احتمال وصول اليمين المتطرف إلى السلطة عله ينجح في تشكل الجبهة العريضة التي تحدثنا عنها آنفاً. غير أن الطريق وعرة جداً، في ظل الموجة التي يمكن أن يستفيد منها اليمين المتطرف بعد عشرين يوماً.
ويراهن ماكرون على زرع الخوف من اليمين المتطرف، في أوساط ناخبي يسار الوسط (الحزب الاشتراكي)، واليمين الوسط (حزب الجمهوريين)، ما قد يمكنه من انتزاع نسبة من أصواتهما، خصوصاً في الدور الثاني من الانتخابات في 7 تموز (يوليو) المقبل، اذ سيختار قسم كبير من الناخبين المعارضين لليمين المتطرف التصويت المفيد الذي يمكّن من صد الموجة من خلال توجيه التصويت نحو المرشح الأقدر على إلحاق هزيمة بمرشح اليمين المتطرف.
في المقابل، سارعت زعيمة "التجمع الوطني" مارين لوبن إلى إطلاق جولة مفاوضات عاجلة مع بقية القوى والأحزاب اليمينية المتطرفة التي حصدت 10 في المئة من الأصوات من أجل تشكيل جبهة موحدة والتحالف في الانتخابات المقبلة في محاولة لانتزاع أكثرية مقاعد البرلمان معاً. ومن المقرر أن يواجه تحالف "الجبهة الشعبية البيئية الاجتماعية" اليساري المشكّل من أحزاب "الاشتراكي" و"الشيوعي" و"فرنسا الأبية" والبيئيين الموجة اليمينية وبينهما حزب الرئيس ماكرون الذي سيعمل على اقتناص أصوات من جهات مختلفة تناوئ اليمين المتطرف.
إن الآراء متناقضة في ما يتعلق بتقييم أهداف الرئيس الفرنسي الذي يبدو أنه يتوجه نحو مرحلة مساكنة مع رئيس حكومة من غير حزبه. لكنه يراهن أولاً على سلطاته الواسعة التي يمنحها له الدستور، لا سيما بالنسبة إلى السياسة الخارجية والدفاع. فالبعض يرى أن ماكرون في ضوء الزلزال الحاصل يريد فعلاً وصول مارين لوبن أو ممثلها الأبرز جوردان بارديلا إلى الحكم لخوض معركة استنزاف ضد حزب "التجمع الوطني" خلال المدة المتبقية من ولايته الرئاسية، وذلك بهدف إضعافه، تمهيداً لقيادة جبهة من أحزاب الوسط نحو انتخابات رئاسية مقبلة تهزم اليمين المتطرف سنة 2027. أما البعض الآخر فيرى أن ماكرون لا يزال يأمل بتغيير توجهات الناخبين في الانتخابات التي دعا إليها، الآن وقد وصل اليمين المتطرف إلى عتبة “أوتيل ماتينيون" مقر رئاسة الحكومة كمرحلة أولى قبل الوصول إلى قصر الرئاسة "الإليزيه".