تدخل حرب غزة هذه الأيام مراحل حاسمة، فإما نجاح للحلول الدبلومسية الدولية ووقف لإطلاق النار، موقتاً كان أو دائماً، أو استمرار لحمام الدم الذي تغرق فيه إسرائيل القطاع الذي لم يعد يشبه ما كانه قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر) بشيء. وفي السياق يبدو الربط بين حرب غزة والحرب على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية طبيعياً، فلا وقف لحرب على جبهة لتستمر وتتوسع على جبهة أخرى.
يأتي تبني مجلس الأمن الدولي المقترح الأميركي المعدل لوقف الحرب في غزة، بموافقة 14 عضواً وتمنع روسيا، ليفسح المجال لمفاوضات قد تؤدي إلى هدنة طويلة على أنقاض كل القتل والدمار الذي أصاب غزة وأهلها. ولكن، يجب هنا عدم الإفراط في التفاؤل واعتبار القرار الأميركي نافذاً لمجرد أنه صناعة أميركية، فسيرة إسرائيل مع قرارات مجلس الأمن معروفة منذ 1948، وازدواجية أميركا أيضاً معروفة.
ملخص الاقتراح الأميركي وقف لإطلاق النار على ثلاث مراحل، أولاها وقف فوري لإطلاق النار وإطلاق سراح رهائن وتسليم رفات وانسحاب إسرائيل من المناطق المأهولة في غزة وعودة الفلسطينيين إلى منازلهم في كل مناطق غزة وتوزيع المساعدات بشكل فعال وواسع..، وفي مرحلة ثانية وقف دائم لإطلاق النار وانسحاب كامل للقوات الإسرائيلية، وفي مرحلة ثالثة بدء إعمار غزة وإعادة ما تبقى من رفات المحتجزين المتوفين. كما أكد المقترح الالتزام برؤية حل الدولتين من دون ذكر أي خطوات إجرائية في السياق.
إذاً، الحرب نظرياً أمام منعطف، من المبكر الحديث عن إمكان تكريسه على الأرض، يعكس اهتمام الرئيس الأميركي بوقف الحرب ليحقق إنجازاً خارجياً قبل أن يتفرغ كلية لمعركته الانتخابية الرئاسية في مواجهة خصم يبدو حتى الآن متفوقاً عليه في السباق إلى البيت الأبيض هو الرئيس السابق دونالد ترامب الذي يزايد عليه مع حزبه الجمهوري في تأييد الحرب الإسرائيلية وتبني أهدافها.
تعمد الاقتراح في بنده الأول الإشارة إلى مقترح الرئيس بايدن الذي قدمه في نهاية أيار (مايو) الفائت وشكل أساس المقترح الحالي وإلى قبول إسرائيل به، مستبقاً رفضاً إسرائيلياً محتملاً للاقتراح وواضعاً رئيس حكومتها أمام أمر واقع.
تصويت مجلس الأمن في هذا التوقيت أتي مترافقاً مع مجموعة من التطورات الدراماتيكية، أو نتيجة لها، وأياً كانت مآلاته فإنه يعكس القلق الدولي المتنامي من احتمالات توسع الحرب التي طالت أكثر بكثير مما توقعته حكومة إسرائيل اليمينية المتشددة بصقورها الذين وضعوا منذ اليوم الأول لها سقوفاً عالية واعتمدوا خطاباً لم يتركوا فيه مجالاً للحلول. كانت حرباً تحت شعار "لن نتوقف حتى تحقيق الانتصار". وتحقيق الانتصار هو بالقضاء على "حماس" وتحرير الأسرى جميعاً وضمان أمن إسرائيل الدائم. وهي أهداف لم يتحقق منها أي هدف بعد انقضاء أكثر من ثمانية أشهر على الحرب الدموية المستمرة في تصاعد وحشي. فلا الأسرى عادوا ولا العمليات المعقدة والمكلفة لتحرير بعضهم أقنعت ذويهم بجدوى استمرار الحرب لتحريرهم، والخوف الآن هو على حياة الباقين إذا أصر نتنياهو وزمرته على تحريرهم بالقوة. وما زال قادة "حماس" وعلى رأسهم يحيى السنوار أحياء ويقودون المقاومة في رفح وخان يونس ودير البلح وحتى في شمال غزة ويطلقون بين الحين والآخر رشقات من الصواريخ على المستوطنات الإسرائيلية حتى تل أبيب، وما زال مقاتلو "حماس" يوقعون قتلى وجرحى في صفوف الجيش الإسرائيلي وآخرهم أربعة من لواء جفعاتي قبل يومين بينهم ضابط.
أما ضمان أمن دائم لإسرائيل فيبدو في عالم الغيب، ما لم يكن هناك حل نهائي يضمن للفلسطينيين دولتهم الحرة المستقلة الكاملة الأوصاف القانونية والمالية والاقتصادية والسياسية، وعبثاً تحاول إسرائيل تجاهل وجود الشعب الفلسطيني ومخادعة العالم بنظريتها التاريخية المزورة القائمة على مبدأ "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".
ماذا بعد تصويت مجلس الأمن؟
يبدو أن "حماس" تتجه أكثر نحو البراغماتية الواقعية في تعاطيها مع الضغوط الدولية والعربية عليها ومع وقائع الميدان، فهي سارعت إلى الترحيب بالمقترح، ومثلها فعلت "حركة الجهاد الإسلامي" في مقابل تريث المستوى السياسي الرفيع في إسرائيل.
لم يفرح نتنياهو كثيراً بعملية تحرير أربعة أسرى في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة التي كلفته مقتل ضابط ونقمة عالمية عليه لأن الثمن كان أكثر من مئتي ضحية بين السكان الفلسطينيين، بينهم أكثر من خمسين طفلاً، وهو نموذج من التعاطي الدموي ردت عليه "حماس" بعد يومين من العملية، مؤكدة أن ثلاثة أسرى إسرائيليين قتلوا في مكان احتجازهم نتيجة القصف الإسرائيلي، وهو ما يضع الأسلوب الإسرائيلي في تحرير الأسرى موضع اعتراض ومساءلة وينسف نظرية تحرير الأسرى بالقوة لأنه سيؤدي إلى تحرير جثث لا أحياء.
ما لم يقله نتنياهو الذي يواجه انقلاباً عليه داخل مجلسه الحربي وداخل الحكومة أيضاً، وضغوطاً شعبية وسياسية في العالم الغربي، قالته المندوبة الإسرائيلية لدى الأمم المتحدة ريوت شابير بن نفتالي رداً على تصويت مجلس الأمن من أن بلادها ستواصل عمليتها في غزة، ولن تشارك في مفاوضات "لا معنى لها مع حركة حماس"، مجددة الإصرار على الأهداف الثلاثة التي وضعتها حكومتها في اليوم الأول للحرب.
الصورة الآن كالتالي: غزة مدمرة و"حماس" تحت ضغط كبير، وإسرائيل عاجزة عن حل عسكري حاسم، ونتنياهو في تحالف هش، والعالم الغربي الذي دعم إسرائيل بدأ يتذمر من طول أمد الحرب ووقائعها وكلفتها عليه وتأثيراتها في دوله. في هذا التوقيت يأتي تصويت مجلس الأمن، والتنفيذ بيد من بيده الأمر، إذا أراد، وهو جو بايدن، فهل يريد؟ وهل يقدر؟