النهار

قوة اليمين الأوروبي... وضعفه!
عمّار الجندي
المصدر: النهار العربي
بعد أيام من إعلان نتائج الانتخابات الأوروبية التي أظهرت بادئ الأمر جموح اليمين المتطرّف على نحو فاق التوقعات، بات المشهد أكثر وضوحاً، وصار ممكناً رؤية حصيلة الأحزاب المتشدّدة بتأنٍ
قوة اليمين الأوروبي... وضعفه!
مؤيدة لحزب "فوكس" اليميني المتطرف في إسبانيا تحمل لافتة كتب عليها "آن الأوان لإنقاذ أوروبا" في تجمع انتخابي في فوينلابرادا بإسبانيا قبل انتخابات البرلمان الأوروبي، 7 حزيران (يونيو) 2024 (أ ف ب)
A+   A-
بعد أيام من إعلان نتائج الانتخابات الأوروبية التي أظهرت بادئ الأمر جموح اليمين المتطرّف على نحو فاق التوقعات، بات المشهد أكثر وضوحاً، وصار ممكناً رؤية حصيلة الأحزاب المتشدّدة بتأنٍ، بعيداً من صخب التحليلات المتعجلة وفوضى فرز الأصوات الذي لم ينتهِ بعد في إيرلندا. 
 
والحق أن إنجازات من سمّاهم وزير بريطاني أسبق دعاة "سياسات الكراهية"، تبدو الآن متفاوتة بين بلدان الاتحاد الأوروبي الـ 27، التي خرجت ظافرة في بعضها ومهزومة في بعضها الآخر. والأهم، في الحالين، هو مدى قدرة اليمين المتطرّف على استثمار نجاحاته وفرض رغباته على القارة. 
 
حقّق اليمين المتطرّف مفاجآت سلبية في عدد من الدول. مثلاً، في إسبانيا التي كان من المنتظر لـ "فوكس" أن يتقدّم فيها، وهو الذي ملأ الدنياً ضجيجاً في مؤتمر انتخابي أخير كان مرصّعاً بعدد من نجوم اليمين المتطرّف الأوروبي والعالمي، فجاء ثالثاً بـ 6 مقاعد ونسبة أصوات بلغت 9.6 في المئة، أي أقل بنحو 3 في المئة من الأصوات التي حصل عليها في انتخابات حزيران (يونيو) 2023. أما الإشتراكيون بزعامة رئيس الوزراء بيدرو سانشيز ففازوا بـ20 مقعداً و30.2 في المئة من الأصوات. وفي بولندا، أخفق حزب العدالة والقانون المتطرّف في استعادة ماء وجهه بعد خسارته انتخابات تشرين الأول (أكتوبر) الماضي وخروجه من الحكم. فقد نال 36.2 في المئة من الأصوات، أي أقل بنقطة مئوية من "التحالف المدني" بقيادة رئيس الوزراء دونالد توسك، الذي بلغت حصته الانتخابية 37.1 في المئة. وخرج "فلامز بيلانغ" الانفصالي المتطرّف في بلجيكا من الانتخابات الأوروبية بحصيلة مساوية تقريباً لمنافسه اليميني "التحالف الفلمنكي الجديد"، خلافاً لما تردّد بقوة في الماضي القريب. وتكرّر السيناريو ذاته في دول عدة، منها البرتغال وبلغاريا. 
 
ولعلّ المفاجأة الأبرز كانت من نصيب الدول الاسكندنافية. فقد جاءت نتائج "الفنلنديون" المتطرّف مخيبة، وحلّ سادساً بمقعد واحد متخلّفاً عن اليسار (3 مقاعد) والخضر (مقعدان). وأتى اليمين المتطرّف سادساً في الدنمارك، فيما فاز الخضر بالمركز الأول وتبعه الاشتراكيون. أما "ديموقراطيو السويد" فاحتل المركز الثالث بحصة مساوية للخضر (3 مقاعد) متخلّفاً عن الاشتراكيين الذين تصدّروا النتائج بـ5 مقاعد.
 
في المقابل، كانت لليمين المتطرّف انتصاراته المدوية في معاقله التقليدية، مثل إيطاليا والنمسا وفرنسا حيث تبوأ المركز الأول، وألمانيا وهولندا اللتين جاء فيهما ثانياً. 
 
والسمة اللافتة لليمين المتطرّف هو تشظّيه، بصرف النظر عن نجاحه أو فشله. مثلاً، "فيديز" الهنغاري بزعامة رئيس الوزراء فيكتور أوربان أتى أولاً لكنه خسر 30 في المئة من أصوات أنصاره الذين صوّتوا لمصلحة حزب معارض خرج عملياً من صفوفه وسلّط الضوء على فضائحه. أما "فوكس" الإسباني، فهو الآخر تعرّض لعملية "سطو" على عدد من ناخبيه السابقين الذين شعروا أنه "لم يفعل شيئاً" فأعطوا أصواتهم لحزب "الحفلة انتهت" بقيادة مؤثر يميني متطرّف اسمه ألفاريس بيريز، حلّ بعده مباشرة بثلاثة مقاعد و4.6 في المئة من الأصوات. وفي ألمانيا، تخلّى حزب "البديل لألمانيا" عن ماكسيميليان كراه، زعيم فريقه في البرلمان الأوروبي، بعد أخذ وردّ واتهامه بعدد من الفضائح التي دفعت مارين لوبن وكتلة "الهوية والديموقراطية" إلى طرد الحزب المتطرّف من صفوفها. 
 
لكن فرنسا هي الميدان الرئيسي بامتياز الذي تتجلّى فيه قوة اليمين المتطرّف وضعفه أيضاً. فجّر الرئيس إيمانويل ماكرون قنبلة الانتخابات التشريعية بعد هزيمته الكاسحة أمام "التجمع الوطني" بزعامة مارين لوبن الذي فاز بـ30 مقعداً ونسبة 31.4 في المئة، أي نحو ضعف حصة حزب "النهضة" الحاكم. 
 
وتداعى اليمين المتطرّف على الفور للعمل على توحيد الصفوف بهدف دحر ماكرون. لكن سرعان ما خفتت الجلبة، وبدأت ماريون ماريشال لوبن، نائبة زعيم حزب "الاستعادة" بقيادة إريك زمور وكبيرة ممثليه في البرلمان الأوروبي، التي سارعت إلى التباحث مع خالتها مارين ورئيس حزبها جوردان بارديلا بشأن العمل معاً، تتراشق بالاتهامات مع الأخير. وشجبت تراجعه المزعوم عن فكرة التنسيق بين الحزبين، بعدما رحّب بها بدءاً. والأدهى أن زيمور كان ضدّ مشروع التعاون هذا، وتردّد أنه على خلاف عميق مع ماريون. 
 
ولم تتوقف الأمور عند هذا الحدّ. فقد أجج إريك سيوتي، زعيم حزب "الجمهوريين"، عاصفة من الانتقاد في صفوف الديغوليين، حين أعلن عن استعداده للتحالف مع "التجمع الوطني"، وتدفقت الاتهامات بالخيانة على صديق إسرائيل الحميم. وإذ أُفيد بأن برلمانيين استقالوا من الحزب احتجاجاً على هذا "التواطؤ"، فقد اعتبر ميشال بارنييه، وزير الخارجية الأسبق، أن سيوتي "لم يعد يتمتع بالثقة" في الحزب. وربما يكون مشروع تحالفه مع لوبن قد أُجهض في مهده. لكن من السابق لأوانه الجزم بذلك، فلا يزال هناك متسع من الوقت، لأن الانتخابات ستُجرى في 30 حزيران (يونيو) الجاري و7 تموز (يوليو) المقبل.
 
في المحصلة، قيل في تفسير قرار ماكرون المفاجئ إن الرئيس أراد أن يعطي اليمين المتطرّف حبلاً ليشنق نفسه، فإدارة السلطة أصعب من المعارضة. ووجودهم غير المرجح في السلطة سيفضح عجزهم عن الوفاء بوعودهم، كما جرى لرفاقهم في السلاح في الدول الاسكندنافية، حيث خذل الناخبون "ديموقراطيو السويد" و"الفنلنديون"، لأنهم يشاركون في الحكم.
 
لكن ما لم يُقل هو إن الرئيس الفرنسي كشف بقراره عن ضعفهم، أو لعلّهم أزاحوا الغطاء بأيديهم عن قوتهم الحقيقية، بعدما بدوا كالمارد عقب إعلان النتائج. وإذا كان اليمين المتطرّف، المنقسم عميقاً على مستوى أوروبا، لا يستطيع أن يوحّد صفوفه في معقل رئيسي سجّل فيه للتو انتصاراً تاريخياً، فهل يمكنه أن ينجح في فرض أجندته لجهة نسف الاتحاد الأوروبي من الداخل، ومنع التقارب بين أعضائه، وعرقلة "الصفقة الخضراء" والسياسات البيئية، وتوجيه المزيد من الضربات المؤلمة للأقليات والمثليين والمهاجرين؟
 

اقرأ في النهار Premium