النهار

بورتريه سريع لوزير خارجيّة بطيء
غسان زقطان
المصدر: النهار العربي
لا يبدو أن بلينكن قد نجح في تسويق "الصفقة" حتى بعد المؤتمر الصحافي في الدوحة والمقابلة مع فضائية "الجزيرة"، ولعل في تصريحه أنها لا تختلف كثيرا عن تلك التي وافقت عليها المقاومة، شيئا من الصحة، ولكن ما كان يبدو صالحا قبل الحملة على رفح واحتلال المعبر والسيطرة على ممر صلاح الدين، لا يبدو صالحا بعدها.
بورتريه سريع لوزير خارجيّة بطيء
انطوني بلينكن
A+   A-
عندما هبط أنطوني بلينكن في مطار بن غوريون للمرة الأولى بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، كان يبدو كمن استيقظ للتو من نومه على رنين جرس إنذار لا يتوقف، وعندما وقف أمام الكاميرات متأثراً بهيئة مشوشة وحزينة، بدا كمن عقد ربطة عنقه على سلّم الطائرة. 
 
لم يكن يشبه وزير خارجية الولايات المتحدة، كان يشبه إلى حد كبير أتباع الوزير إيتمار بن غفير من حزب "العظمة اليهودية" المتطرف، الذي يقيم في مستوطنة أقيمت على كروم أهالي مدينة الخليل وأراضيها في جنوب الضفة الغربية.
 
على مدرج مطار بن غوريون - اللد قبل النكبة - استعاد يهوديته ونشأته وتاريخ العائلة وصور طفولته وذكريات جدته، وقدم نفسه بصفته يهودياً مخلصاً جاء على عجل للتضامن مع إسرائيل التي أثخنها هجوم "حماس"، كان ذلك انفعالياً إلى حد كبير، ودخولاً بقدم غير مناسبة لـ"حملة إبادة" ستطول، أكثر بكثير من توقعات الرجل الذي منحها كاقتراح أولي حتى مطلع كانون الثاني (يناير) من عام 2024، وها هي تدخل بدموية متصاعدة شهرها التاسع، من دون أن ينجلي الدم والغبار عن نهاية قريبة.
 
سيعود بلينكن مرات كثيرة إلى المنطقة بعد ذلك وسيكون جزءاً من مجلس الحرب في إسرائيل، وسيحاول زحزحة تلك البداية الدرامية وتغطية انفعاله ونزعته التي ظهرت في تلك الزيارة، بما يتلاءم مع دوره القادم، حيث سيظهر في المرحلة الثانية كوسيط ومفاوض وباحث عن الحلول، وسيزج مأساة الفلسطينيين في غزة في إجاباته بكلمات محسوبة، وسيدين، على نحو ما، تطرف بعض المستوطنين متفادياً إدانة الاستيطان، وسيتحدث عن حق إسرائيل في الدفاع عن النفس متجاهلاً أنها جيش احتلال، وأنها تدافع عن الاحتلال... سيدخل ببساطة في سياسة تعويم الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وحصار غزة، وضم هضبة الجولان السورية، ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا اللبنانية.
 
سيجد نفسه أمام شعوب وبلدان متضررة من وجود إسرائيل وغزواتها ونزعة الاستيلاء والسيطرة التي ترسم سياستها، منطقة بقعتها دولة الاحتلال بذكريات الدم والتشريد والتدمير، وسيبدو بطيئاً في استيعاب الأمور هنا.
 
ولكن تلك الوقفة على أرضية مطار اللد، الذي أصبح مطار بن غوريون، ستواصل الظهور إلى جانبه وممارسة نفوذها على خطابه وإفساد طاقة الإقناع التي يقدم بها أفكاره واللغة الدبلوماسية الكلاسيكية التي تذكر بالديلوماسية الإنكليزية البطيئة في أربعينات القرن الماضي، وستتدخل الوقفة الدرامية، في المصطلحات والجمل المعترضة والإضافات المتحاملة التي يزجها في محاولاته الإجابة عن أسئلة صحافيين شبه رسميين في الغالب، جرى انتقاؤهم بدقة بحيث يصعب تسريب سؤال حول كل هذه الفوضى والانعزال عن الواقع اللذين يتحرك خلالهما خطابه وتتشكل فيهما لغته، وتتدفق الشكوك حول نياته ودوره ونزاهته كوسيط.
 
الحمولة التي سبقت جلسته أمام لجنة الخارجية في مجلس الشيوخ وقبل حمله حقيبة الخارجية بأغلبية 15 صوتاً مقابل 3، لم تساعده أيضاً على القيام بالدور، في تلك الجلسة أكد أن وزارته ستبقي السفارة الأميركية في القدس وما ينطوي عليه القرار من اعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، مضيفاً، كما جرت العادة، السعي إلى حل الدولتين.  
 
في تلك الحقبة، الزمن الذي تلى "السابع من أكتوبر" الذي لا يبدو حقيقياً الآن، وصل كثيرون إلى تل أبيب، زعماء غادروا مكاتبهم وأسرّتهم ووصلوا على جناح السرعة، كمن يؤكدون ولاءً مفروغاً منه، لاحتضان بنيامين نتنياهو، بعضهم طالبه بـ"القضاء عليهم"، ووصل في أول مركب من تلك القاطرة رئيس الولايات المتحدة في رحلة طويلة لا تتناسب مع سنه، "الصهيوني" كما يعرّف نفسه منذ عام 1973 من القرن الماضي، بينما كان نتنياهو يوزع عليهم ويضع في جيوبهم نسخاً من شهادات حول أطفال برؤوس مقطوعة ونساء مغتصبات وصورة لطفل محترق، تبين في ما بعد أنها صورة لكلب جرت معالجتها بالذكاء الاصطناعي، في استثمار سياسي محزن لكارثة المحرقة اليهودية في معسكرات الاعتقال النازية..
 
ثمة في كل هذا حقيقة تطارد دبلوماسية الوزير الأميركي، يمكن رؤيتها من القاعة، وليس على المنصة، من هناك، القاعة وأمام شاشات الفضائيات يرى الناس شخصاً آخر يشبه نتنياهو، ويصغون إلى صوت مختلف يتحدث بعبرية فصيحة تحت الإنكليزية الأميركية الصافية للوزير.
 
لا يبدو أن بلينكن قد نجح في تسويق "الصفقة" حتى بعد المؤتمر الصحافي في الدوحة والمقابلة مع فضائية "الجزيرة"، ولعل في تصريحه أنها لا تختلف كثيراً عن تلك التي وافقت عليها المقاومة، شيئاً من الصحة، ولكن ما كان يبدو صالحاً قبل الحملة على رفح واحتلال المعبر والسيطرة على ممر صلاح الدين، لا يبدو صالحاً بعدها.
 
لقد احتفظ الوزير بالصفقة في أدراجه مانحاً الوقت لنتنياهو ووزير دفاعه على أمل الحصول على "انتصار"، وتحسين مواقعه، بحيث يتحكم بالمعبر الوحيد المتبقي لغزة إلى العالم، ومن هناك يمكن "الحديث" عن "اليوم التالي".
 
يمكن هنا إحصاء بعض المنجزات خلال هذه الفترة، بين إخفاء "الصفقة" وإعادة إبرازها؛ مئات القتلى والأحياء المدمرة، مجزرة مخيم اللاجئين في رفح، مجزرة منطقة المواصي، إنقاذ أربعة محتجزين وقتل أكثر من 274 فلسطينياً وإصابة 400 وتدمير السوق الشعبي في النصيرات...
 
في عام 2020 عندما كان مستشاراً سياسياً لحملة بايدن الرئاسية، وصفت صحيفة "نيويورك تايمز" أنطوني بلينكن بأنه "أذن جو بايدن السياسية". في الشهر التاسع لحملة إسرائيل على قطاع غزة وحملات المستوطنين وجيش الاحتلال على أرجاء الضفة الغربية، يمكن من دون تحفّظ استعارة توصيف "نيويورك تايمز" مع بعض التصرف، بعد المؤتمر الصحافي الذي عقده مع رئيس وزراء قطر ووزير خارجيتها هذا الأسبوع، وعلى وجه الخصوص بعد تصريحه المتكرر: "لقد أخبرني نتنياهو موافقته على صفقة التبادل ..."، يمكن اعتباره "أذن نتنياهو السياسية ولسانه أيضاً".
  

اقرأ في النهار Premium