النهار

أيبقى "التطرّف" الإيرلندي عقيماً؟
عمّار الجندي
المصدر: النهار العربي
مع أن العنصريين اعتدوا على الملونين عموماً، فقد هاجموا مهاجرين بيض البشرة أوكرانيين وبولنديين. ولم ينجُ المسلمون من سموم الكراهية الجديدة في إيرلندا، وخصوصاً أن تومي روبنسون المتطرف الانكليزي المعادي للإسلام، صار من ملهمي بعضهم هناك.
أيبقى "التطرّف" الإيرلندي عقيماً؟
مركز اقتراع في دبلن (أ ف ب)
A+   A-
بعد أيام من التسابق المحموم والمفاجآت الصادمة لـ"شين فين" (أنفسنا) أكبر أحزاب المعارضة التي يمكن أن تؤدي إلى تداعيات تتخطى حدود إيرلندا وبريطانيا، أعلنت إيرلندا صباح الجمعة الماضي النتائج النهائية لانتخاباتها المحلية والأوروبية التي انطلقت في 7 حزيران (يونيو). لعل الوقت الطويل الذي استغرقه فرز الأصوات عشرين مرة في بعض الحالات، هو العلامة الفارقة الأولى التي تميز عملية اختيار النواب الأوروبيين الإيرلنديين عن زملائهم في الدول الـ27 الأخرى. ثمة ميزة ثانية تنفرد بها هذه الانتخابات المزدوجة، وهي مساهمة اليمين المتطرف الحديث الولادة، الذي لم يحصد سوى الخيبة.
 
أما أبرز المشتركات بين إيرلندا وغيرها في الغرب، فهي موجة معاداة الهجرة التي وصلت طلائعها إلى شواطئ جزيرة إيرلندا. تاريخ هذه البلاد معمّد بدمائها التي أراقها المستعمرون على ترابها، ما جعلها حتى وقت قريب أشد رأفة من غيرها بالمهاجرين. إلا أن حملات "الكراهية" العنيفة دفعت بعض مثيري الشغب في 2018 إلى إضرام النار بفنادق رخيصة استضافت لاجئين من الشرق الأوسط وأفريقيا وأفغانستان... وأخذت رقعة الحرائق تتسع وتعرض المهاجرون حتى الآن لـ25 هجوماً نارياً ازدادت شراسة وصارت تشمل المنشآت والسيارات والخيام وتوقع الضحايا وسط دبلن.
 
فاقت حصة إيرلندا من لاجئي الحرب الأوكرانية منذ 2022 (100 ألف شخص) قدرتها على التحمل، لا سيما أن طلبات اللجوء الأخرى تزايدت بنسبة 75 في المئة، في ظل أزمة إسكان حادة. وراح المتطرفون يحاولون إضفاء طابع سياسي على نشاطهم الهدام فتشكلت أحزاب صغيرة استوردت من أوروبا نظريات المؤامرة ذاتها التي يروج لها اليمين المتطرف والشعارات العنصرية من قبيل "إيرلندا أولاً" الذي صار اسم حزب ناشئ! 
 
ومع أن العنصريين اعتدوا على الملونين عموماً، فقد هاجموا مهاجرين بيض البشرة أوكرانيين وبولنديين. ولم ينجُ المسلمون من سموم الكراهية الجديدة في إيرلندا، وخصوصاً أن تومي روبنسون المتطرف الإنكليزي المعادي للإسلام، صار من ملهمي بعضهم هناك. 
 
لم يؤثر هذا الجنوح إلى التطرف على التأييد الشعبي لغزة، مع أنه ألحق الأذى بعدد من أصدقائها الكبار، وفي مقدمتهم "شن فين"، حليف فلسطين الأول الذي دفع ثمن انتصاره للمهاجرين. كاد الحزب يخطف السلطة في دبلن في الانتخابات العامة السابقة. وبدأت مناقشة فرصه في إطلاق عملية إعادة توحيد الإيرلنديتين بعد وصوله المرجح في انتخابات عامة قريبة إلى سدة الحكم في دبلن، خصوصاً أنه يتصدر إدارة إيرلندا الشمالية. لكن أسهمه تراجعت تدريجياً في استطلاعات الرأي منذ تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي الذي شهد أعنف أحداث شغب معادية للمهاجرين حولت دبلن إلى جحيم على مدى 14 ساعة. وصار يحقق 20 نقطة على سلّم القبول العام أي نصف رصيده السابق.
 
يأخذ منتقدو زعيمة "شين فين" ماري لو ماكدونالد عليها الاقتراب بسياساتها من الوسط تمهيداً لتشكيل ائتلاف حاكم محتمل مع "فينا فويل"، وعدم طرحها أفكاراً بناءة لحل أزمة الإسكان التي تلقي بعائلات إيرلندية على قارعة الطريق. وربما أصابوا في ذلك. لكن يجب ألا ينسوا أيضاً أن "زعران" اليمين المتطرف كانوا يهاجمون الحزب بنجاح ويتهمونه بالخيانة لدفاعه عن اللاجئين، في سياق محاولتهم تسيبس أزمة الإسكان وربطها بالمهاجرين. وهم فعلوا ذلك عن سذاجة سياسية، أو عن تخطيط يقوم به أولئك الذين استفادوا من تجربة روبنسون وأمثاله، أو من التحقوا بفرق متطرفة غربية.
 
وبالنتيجة فاز "شين فين" بـ21 مقعداً هي نصف ما كان يسعى إليه وصار ممثلوه يحتلون 102 من مقاعد المجلس البلدية (949). أما حزبا الائتلاف الحاكم الرئيسيان فتراجعت حصة كل منهما قليلاً بحيث صارتا متقاربتين: 248 مقعداً لـ"فيانا فويل" (محاربو فويل) و245 لـ"فينا غايل" (عائلة الإيرلنديين) فيما خسر شريكهما الثالث "الخضر" أكثر من نصف مقاعده البلدية. وإذ أضاف "شين فين" مقعداً جديداً إلى الذي كان يحتله في البرلمان الأوروبي، فهو ضاعف "فينا فويل" حصته التي أضحت 4 مقاعد، وتقلص نصيب "فينا غايل" من 5 إلى 4 مقاعد، وضيّع الخضر مقعده اليتيم. وحصل مستقلان على اثنين من مقاعد إيرلندا الـ14 في البرلمان الأوروبي، خرج أحدهما للاحتفال بانتصاره رافعاً علم فلسطين. بيد أن اثنين، من أشد المؤيدين لها هما كلير دالي وميك والاس اللذان أثارا جدلاً واسعاً بتأييد موسكو وإيران، وزيارة مراكز تابعة لـ"الحشد الشعبي" في العراق، هُزما في الانتخابات. 
 
في الأثناء، خطف معارض للهجرة مقعداً في البرلمان الأوروبي. لكن فشل المتشددون بأنواعهم باقتناص أكثر من مقعدين بلديين مع أنهم نافسوا على العشرات. أضرت جهودهم بالمهاجرين الضعفاء، ولم تقضِ على حظوظ "شن فين"، أو تسوق المتطرفين انتخابياً. فهل ستبقى عقيمة هكذا؟
 
وإذ تُسدل الستارة على فصل متوتر في السياسية الإيرلندية، من المتوقع أن ترتفع قريباً. ويجمع معلقون على أن رئيس الوزراء سايمون هاريس سيدعو إلى انتخابات عامة هذا الخريف لانتهاز لحظة تراجع "شين فين" بدلاً من الانتظار إلى نهاية ولايته الرسمية في آذار (مارس) 2025. لكن من يعلم ما يحصل غداً، لا سيما أن ناخبي إيرلندا معروفون بتأرجحهم.
 
وسواء قرب هاريس موعد الانتخابات أم لا، ينبغي على الحزب الجمهوري أن يسرع بإعادة تموضعه وببلورة اقتراحات واقعية لمعالجة أزمتي الإسكان وتكلفة المعيشة. ولا بد له من العمل على التصدي للعنصريين بفاعلية. فسمومهم ستجد تربة خصبة في إيرلندا الشمالية المهيأة سلفاً للوقوع ضحية للأكاذيب الطائفية. ويعتقد أن "شين فين" لا يزال متماسكاً هناك، إلا أن نتائج الانتخابات العامة الوشيكة في المملكة المتحدة ستؤكد ذلك من عدمه. 
 
إن رصيده من الخيبات في قرن من الزمن كبير. ولطالما ترنح من دون أن يسقط. وربما استطاع أن يستعيد ثقة ناخبيه التقليديين من جديد.
 

اقرأ في النهار Premium