تأتي الانتخابات الرئاسية في إيران، وسط أزمات داخلية وتحديات خارجية، لم تستطع الحكومة المحافظة، بقيادة الراحل، إبراهيم رئيسي، إلا أن تقدم حلولاً جزئية لبعضها، فقد كانت حكومة راهن عليها النظام في حماية مبادئه وسلامته، وراهن عليها الغرب أيضاً في إمكانية التوصل لاتفاق متماسك معها.
لكن يبدو أن الداخل والخارج الآن قد أدرك عدم نجاعة ذلك، فإن توحيد طيف التيار الحاكم في البرلمان والحكومة قد أدى إلى انقسام مجتمعي وتفشي حالات اليأس، بل ودخول التيار المحافظ في صراعات بين أجنحته بعدما قضوا على الإصلاحيين، وهو ما ترجمته الانتخابات البرلمانية التي عزف الناخبون عن صناديقها. بجانب أن شخصيات محافظة متزنة مثل، رئيس البرلمان، محمد باقر قاليباف، واجهت معارضة من أجنحة متشددة مثل جبهة الثبات (جبهه پایداری)، أو معارضي الاقتراب من الغرب (دلواپسان)، لدرجة أنه ما كان يستطيع رئاسة البرلمان للمرة الثانية، لولا دعم المعتدلين والمستقلين له.
ويبدو أن النظام قد أدرك الآن أهمية مشاركة الإصلاحيين في دفع الحياة السياسية وتنشيطها، ما أدى إلى ظهور معادلة 5+1 (إصلاحي واحد في مواجهة خمسة محافظين)، التي نتيجتها تحتاج إلى تفاعل نشط بين الأطراف السياسية كافة!
تحديات خارجية
تأتي هذه الانتخابات وإيران على أعتاب ما بعد الاتفاق النووي الذي يقترب من انتهاء مفعوله (18 تشرين الأول/أكتوبر 2025)، ما دفع الترويكا الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) إلى الضغط أكثر في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وفي مجلس الأمن الدولي، الأمر الذي دفع طهران للتشدد نحو مزيد من سياسة خفض الالتزام النووي التي تنذر بتجاوز العتبة الآمنة.
ويبدو أن إصرار الترويكا الأوروبية على استصدار قرار ضد طهران في مجلس محافظي الوكالة رغم معارضة الولايات المتحدة، هدفه أن تختار إيران المنشغلة بانتخاب رئيسها، بين العودة للمفاوضات أو مواجهة "آلية الزناد" التي تهدد بعودة العقوبات الدولية. خاصة أن احتمال عودة الجمهوري دونالد ترامب إلى البيت الأبيض قد يضع إيران أمام أزمة حقيقة، إذا ما أعاد فرض سياسة "أقصى ضغط" على اقتصادها.
ويبدو أن روسيا هي الأخرى قد قلقت على مصالحها، فاستعجلت التوقيع على الاتفاقية الاستراتيجية، وهو ما عارضته طهران، خاصة أن مجيء حكومة إصلاحية يخلق نوعاً من التوازن بين الشرق والغرب، وهو ما يزعج موسكو التي تواجه عقوبات غربية.
الداخل الإيراني
يدرك مرشحو الرئاسة جيداً أزمات الداخل، فالأزمة الاقتصادية على رأس أولوياتهم، وحلها يرتبط بشكل كبير بالعلاقة مع العالم الخارجي، فإن رفع شعار "الاقتصاد المقاوم" لم يجدِ نفعاً لحل أزمات المواطن الذي يعاني من تضخم أسعار أفقده الثقة في النظام الحاكم كله.
فإن حكومة رئيسي التي رفعت ذلك الشعار لجأت في النهاية للتوصل لاتفاق مؤقت مع الولايات المتحدة، حصلت بموجه على تغاضي عن مبيعات النفط وتحرير جزء من أموال الخارج. ما يعني أن الشعارات غير كافية لإقناع الناخبين بالذهاب إلى صناديق الاقتراع، بل الموقف من السياسة الخارجية. وهذه المسألة هي ما تجعل المنافسة الحقيقية بين المرشح المحافظ، محمد باقر قاليباف والمرشح الإصلاحي مسعود بزشكيان.
فالأول على غرار رئيسي، يسلم توجه سياسته الخارجية لما يقرره النظام الحاكم. أما الثاني فيطمح لتكرار تجربة حكومة حسن روحاني بتحقيق معادلة في العلاقة بين الشرق والغرب.
وأما المنافس القوي الثالث من التيار المحافظ، سعيد جليلي، فموقفه معروف، بمعارضته لأية اتفاقيات ملزمة مع الغرب، فقد قاد المحادثات النووية خلال حكومة أحمدي نجاد بوصفه رجل الأمن القومي وليس رجل الدبلوماسية. وهو ما يضعف موقفه الانتخابي، حتى أنه قال في لقاء تلفزيوني إنه سيبيع المشتقات النفطية ولا يحتاج لبيع النفط الخام!، ما يعني عدم حاجته لرفع العقوبات عن إيران.
أيضاً، بجانب المعيشة والفقر، هناك قضايا اجتماعية تتعلق بالأجيال الجديدة، فإن كان هناك مَن يعتبر الاقتصاد له الأولوية على مسائل مثل الحجاب وشرطة الأخلاق، وهي قضايا أيضاً تخضع كما السياسة الخارجية إلى سلطة أعلى من السلطة التنفيذية، لكنها تتعلق بسلامة الدولة الإيرانية، لا سيما أن رئيسي لم يستطع معالجتها ولو بالدعم المعنوي، إذ كانت عيناه على منصب المرشد. ولا سيما أيضاً، أن "الجيل زد" الذي انتفض من أجل حرية الحجاب في أيلول (سبتمبر) 2022، يمثل 40% من أصوات الناخبين، وهي نسبة لا يمكن تجاهلها.
معادلة متوازنة
قد تبدو معادلة محافظين خمسة (قاليباف، جليلي، زاكاني، هاشمي، بور محمدي) في مواجهة إصلاحي واحد (بزشكيان) غير عادلة، لكنها متوازنة!
فإن النظام يبدو حتى الآن يريد إدارة اللعبة على أساس قاعدة "انتخاب الأصلح" وهي العبارة التي رددها خطباء الجمعة الماضي، وأن تُحدد المناظرات واللقاءات التلفزيونية مصير المرشحين الستة، بعدما يستمع الناخب لإجابتهم حول القضايا الداخلية والخارجية وبعدها يقرر أي المرشحين يلبي احتياجات الساعة!
فإن كان هناك خمسة مرشحين من التيار المحافظ، فذلك من أجل أن يقرر ذلك التيار الذي هيمن على السلطة التنفيذية والبرلمان، هل يتوحد حول مرشح واحد أم يفضل الانقسام!
وإن كان هناك مرشح واحد للإصلاحيين، فذلك من أجل أن يقرر ذلك التيار، هل يتراجع عن عزوفه عن صناديق الاقتراع، أم يترك الساحة للمحافظين!
وهي معادلة جميع نتائجها في صالح النظام، خاصة أنه في حاجة إلى معالجة الهوة التي حدثت بين الشارع والسلطة ويحتاج إلى إعادة الثقة نحو صناديق الاقتراع.
ويبدو أن بزشكيان قد نجح في المهمة التي قد تمت الموافقة على ترشحه من أجلها، فخلال مؤتمره الانتخابي في طهران الجمعة الماضية، استطاع أن يجمع النساء حوله، قائلاً: "نحن مَن يستحق الضرب وليس النساء، لقد فشلنا طوال 40 عاماً ونحن نحاول مأسسة الحجاب، بينما نحن مَن أبعدنا الناس عن الدين... سأكون مدافعاً عن النساء... أطلب منكم أن تأتوا إلى صناديق الاقتراع لكسر الهيمنة التي يريدونها!".
والمحصلة، إن سماح النظام بمرشح واحد للإصلاحيين، مسألة في غاية الذكاء، ليس لأن يكون النصيب الأكبر للفوز من حظه، لكن لأنه سيكون قادراً على إعادة الأصوات الرمادية إلى صناديق الاقتراع. أما هل يكون الفائز من المحافظين أم الإصلاحيين، فكلاهما بالنسبة للنظام رجل المرحلة!