"أمّا بعد، فإنّي لا أعلمُ أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبرَّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكُم الله عنّي جميعاً خيراً. ألا وإنّي أظنُ يَومنا من هؤلاءِ الأعداء غداً إلّا وإنّي قد أذنتُ لكم، فانطلقوا جميعاً في حلٍ ليس عليكم حَرجٌ منّي ولا ذمام، هذا الّليلُ قد غشيكم فاتّخذوه جَمَلا، وليأخُذ كلُ رجلٍ منكم بيد رجل من أهل بيتي، وتفرّقوا في سَوادِكم ومدائنكم حتّى يُفرجَ الله، فإنَّ القومَ إنما يطلبونني ولو قد أصابوني لَهوا عن طلب غيري".
كان ذلك جزءاً مما سرده الرواة من حديث الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، حفيد النبي محمد بن عبد الله، لأهل بيته وأصحابه ليلة العاشر من المحرم، سنة 61 هـ.
الحسين في خطابه كان صريحاً، حث أصحابه وآل بيته على الخروج من المخيم والتفرقِ بعيداً، كي يجنبهم الأذى، وكي يصبحوا في سلامة من أمرهم، أي أنه لم يجبرهم على القتالِ أو يدفعهم إلى البقاء معه، رغم أنه إمامهم الذي يحبون ويدافعون عنه بأرواحهم، بل العكس ما حصل، حيث أصر الجميع طواعية على البقاء معه والذودِ عنه بالغالي والنفيس!
أبعد من ذلك، تروي كتب السيرة، قصة تتوافق مع المناقبية الأخلاقية العالية والقيمِ السامية التي يتحلى بها الإمام الحسين، أنه كان ينظرُ إلى القومِ الذين احتوشوه ليقتلوه نهار يوم العاشر من المحرم، وهو يبكي، فسألته اخته زينب بنت علي قائلة: لماذا البكاء؟ ليجيبها "أبكي لهؤلاء القوم الذين يدخلون النار بسببي"!
الحسين على ما له من مكانة كبرى اجتماعية ودينية وعلمية لدى عموم المسلمين، كان حريصاً على أن لا تسفك الدماء، ولهذا، خرج من مكة في يوم "التروية" فهو لا يريد أن يُراق الدم في الكعبة المشرفة، صوناً واحتراماً لها.
بعدها توجه مع من كان معه إلى الكوفة، حيث أرسل لهم قبل ذلك سفيره وابن عمه، مسلم بن عقيل، بناء على رسائل أتته من كبار أعيانها وشيوخ قبائلها، إلا أن مسلم قُتل هناك، دون أن يعلم الحسين بادئ الأمر.
في الطريق، وعندما كان الحسين متجهاً صوب العراق، واجهه الحر بن يزيد التميمي، على رأس جيش، وكانوا منهكين من العطش والحر، فأمر الحسين أصحابه قائلاً "اسقوا القوم وارووهم من الماء، ورشفوا الخيل ترشيفا".
كان بإمكان الإمام الحسين أن لا يعطي الماء لـ"خصومه" الذين جاؤوا بأمر من عُبيد الله بن زياد للقبض عليه، كان بإمكانه أن يستخدم ضدهم "سلاح التعطيش" إلا أنه لم يفعل، لأن شمائله وأخلاق العرب النبلاء تستنكف ذلك.
بعد أن شرب القوم الماء، طلب قائدهم أن يأخذ الحسين إلى الكوفة مخفوراً، إلا أن حفيد رسول الله محمد بن عبدالله، رفض ذلك، ورغب في العودة إلى المدينة المنورة، إلا أنه حيل بينه وبين ذلك؛ وبعد حوار مطول، قال الحر بن يزيد التميمي للحسين بن علي: "خذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يردك إلى المدينة يكون بيني وبينك نصفا، حتى أكتب إلى الأمير عبيد الله بن زياد، فلعل الله أن يرزقني العافية من أن ابتلي بشئ من أمرك".
هذه القصة دليل على أن الحسين لم يكن في مهمة "انتحارية" كما يعتقد البعض، أو أنه ذاهب إلى الموت راغباً فيه، وإنما كان يتجنب ذلك حتى آخر لحظة قبل شهادته، بل كان يهدف إلى "الإصلاح في أمة جدي" حسب ما روي عنه، في خطوات كانت منسقة ومرتبة قبل أن يخذله من أعلنوا نصرته وبيعته في وقت سابق.
يروي أرباب السير، أن الإمام الحسين توجه نحو جيش عمر بن سعد، يوم العاشر من المحرم، مخاطباً كبار القومِ فيه وسادة العشائر "يا شبث بن ربعي، يا حجار بن أبجر، يا قيس بن الأشعث، يا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إلي أن قد أينعت الثمار وأخضر الجناب، وإنما تقدم على جند لك مجند؟!". وذلك يشيرُ إلى أن مقدم الحسين إنما كان بناء على طلب من أعيان الكوفة وساداتها، وليس عملاً ثورياً – عدمياً كما يروجُ البعض، وأنه حتى آخر رمق كان يعمل على تجنب صدام الجيشين.
الإمام الحسن بن علي، الأخ الأكبر للحسين، مات بالسم في العام 51 هـ بحسب بعض المؤرخين، فيما واقعة كربلاء حدثت العام 61 هـ أي بعد بعشر سنوات؛ ما يعني أن الحسين سار على نهج أخيه من قبله، في سياق يحفظ دماء المسلمين ودينهم وسلمهم، وهو ذات الأمر الذي انتهجه الأئمة من بعده، وأن واقعة "كربلاء" كانت لها ظروفها الخاصة التي يجب قراءتها والتمعن فيها ضمن سياقاتها التأريخية، دون انتزاعها بشكل تعسفي.
هذه الشذرات المهمة من تأريخ كربلاء، هل قرأها رئيس حركة "حماس" في غزة يحيى السنوار، وهل تبصر في معانيها وما تكتنزه من قيمٍ أخلاقية عالية، وإذا كان فعل ذلك، فهل هذه السيرة الحسينية تطابق ما يدعو له السنوار حين قال "علينا أن نمضي قدمًا على نفس المسار الذي بدأناه، أو فلتكن كربلاء جديدة"، وفق الرسائل المنسوبة له والتي نشرتها صحيفة "وول ستريت جورنال"!
"كربلاء" حدث تاريخي حفر عميقاً في الوجدان الإسلامي، ولا تزال آثاره باقية حتى الآن، ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه يملك "كربلاء" ويرفعها قضية وكأنه يقبضُ على كنهها، أو أن ما ينتهجه من عملٍ مسلحٍ هو امتداد طبيعي لها.
ما تقوم به قوات الاحتلال الإسرائيلي من عمليات إبادة واستهداف متعمد للمدنيين والأطفال والنساء، والتهجير القسري، واستخدام "التجويع" كسلاح ضد الفلسطينيين، جميعها ممارسات دموية غير أخلاقية وتخالف القوانين الدولية، ويجب أن تتوقف حالاً، وأن يحاسب مرتكبو هذه الجرائم، وهي منهجية لن تقود لأمن إسرائيل.
خطاب حركة "حماس" وعملياتها المسلحة، هي الأخرى لن تقود لتحرير فلسطين أو بناء دولة مستقلة.
الدم لا يورث إلا الدم، ولذا؛ دعم الحلول السلمية وفق مقررات الأمم المتحدة والدفع نحو مسار موثوق لعملية سلام حقيقي وجادٍ، تتبناه وتحميه وتطبقه المنظمات الدولية والدولُ المعنية، دون استنسابية أو محاباة، وحده هذا المسار ما سيوفر الأمن للفلسطينيين والإسرائيليين، ويمهد للسلام الدائم في الشرق الأوسط؛ فهل يدعم بنيامين نتياهو ويحيى السنوار هذا الخيار، أم أن الدم بلونه القاني هو ما سيصبغ القادم من أيامٍ وسنوات؟!