حالة من الترقب تسود معظم الأوساط السياسية في تونس، مثل بقية بلدان المغرب العربي، لما ستؤول إليه الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها التي دعا إليها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد النتائج الهزيلة لحزبه في الانتخابات البرلمانية الأوروبية وصعود أسهم حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف.
أياً كانت نتيجة الرهان الانتخابي في فرنسا، من المؤكد أن دول شمال أفريقيا لا بد من أن تستعد لفترة قادمة سوف يلعب فيها أقصى اليمين دوراً متزايداً على الساحة الأوروبية.
استطاعت سرديات أقصى اليمين في أوروبا إيهام جانب كبير من الناخبين، حتى الشباب منهم، بأن التصدي للمهاجرين أصبح يشكل ضرورة حيوية لأوروبا. وتدفع شعبوية اليمين المتطرف إلى انكفاء القارة على نفسها سياسياً واقتصادياً وثقافياً وتحويل موضوع الهجرة إلى قضية أمن قومي.
لكن هذه الرؤية تتعارض مع مقتضيات الواقع نظراً إلى ترابط المصالح بين أوروبا وبلدان جنوب المتوسط، إضافة إلى عامل القرب الجغرافي والتاريخي بين الضفتين. كما أن التهرم الديموغرافي يجعل أوروبا في حاجة ماسة لليد العاملة المهاجرة.
استطاع أقصى اليمين الأوروبي استغلال وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة لتمرير رسائل التوجس من هجرة الأجانب وما قد تسببه من منافسة على مواطن الشغل والمنافع الاجتماعية، بالإضافة إلى ما يراه من "خطر أسلمة" المجتمعات الأوروبية.
المفارقة هي أن الشعبوية اليمينية الأوروبية لها ما يقابلها جنوب المتوسط. فلما يطالع المرء صفحات "فايسبوك" في تونس مثلاً يلاحظ انتشار سرديات تبرز النيات العدائية للغرب ولا تضيع فرصة للتذكير بالماضي الاستعماري الفرنسي على وجه التحديد. وسواء كان ذلك من باب رد الفعل على المواقف العنصرية في أوروبا أو نتيجة للانحياز الأيديولوجي ضد الغرب، فإن هذه السرديات تجد من يصغي إليها.
تلتقي التيارات الشعبوية المتواجهة على ضفتي المتوسط في الدفاع عن ثوابت "الهوية" الدينية والحضارية التي تراها مهددة. لكن تيارات الرأي الشعبوية في شمال أفريقيا تتميز برفع شعارات الانتصار للسيادة والاستقلال ورفض ما تراه نزعات لفرض استعمار جديد.
شعبويتان متوازيتان مع فوارق جوهرية، فإن كان لأوروبا ترف السير وراء شعبوية طاردة للأجانب فليس للتونسيين بالخصوص ترف القطيعة مع الأوروبيين، وذلك لاعتبارات عدة، أولها أنهم يعرفون تمام المعرفة أنهم يحتاجون إلى أوروبا على الصعد كافة، وبخاصة على الصعيد الاقتصادي اعتباراً لأزمتهم المالية الخانقة.
أما الاعتبار الثاني فهو أن الهجرة إلى أوروبا أصبحت الحل الذي تنشده منذ سنوات أعداد كبيرة من التونسيين. وعندما أكد رئيس الحكومة التونسي الأسبوع الماضي ضرورة "إعادة الأمل" للشباب التونسي في معرض حديثه عن هجرة الكفاءات، فقد كان يشير ضمناً إلى الحالة الاجتماعية والنفسية لشرائح واسعة من الأجيال الجديدة في تونس التي تشعر بأن آفاق بلادها لم تعد تتسع لطموحاتها.
ومهما تعاظمت مظاهر الصد والعنصرية في أوروبا، يواصل الكثير في تونس وبلدان شمال أفريقيا البحث عن أفضل السبل نحو شمال المتوسط.
في الأثناء تفرض معالجة موضوع الهجرة على تونس اعتبارات متناقضة. ففي الوقت الذي تشعر فيه السلطات التونسية بالانشغال نتيجة هجرة الآلاف من خيرة نخبها إلى الخارج ومحاولة آلاف آخرين من الشباب اليائس المغامرة بعبور المتوسط عبوراً غير نظامي، فهي تجد نفسها في قلب الإستراتيجية الأوروبية التي تتزعمها إيطاليا، والرامية إلى منع تدفق المهاجرين الأفارقة غير النظاميين القادمين من جنوب الصحراء نحو أوروبا عبر تونس وليبيا.
وهذه الاستراتيجية الأوروبية تثقل كاهل تونس أكثر من غيرها. فكلفة الجهد الذي تبذله السلطات لمنع الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين من الإبحار انطلاقاً من شواطئ البلاد تتجاوز بكثير مستوى المساعدة الأوروبية التي تتلقاها. وهذه الكلفة ليست فقط مادية. وفي بعض المناطق من البلاد أصبح الوضع دقيقاً نتيجة عدم ارتياح السكان المحليين إلى وجود أعداد كبيرة من المهاجرين الأجانب في مدنهم وقراهم. وتضاف إلى ذلك الكلفة السياسية لسعي الأوروبيين لترحيل أعداد متزايدة من المهاجرين الموجودين في أوضاع غير قانونية إلى بلدانهم الأصلية ومن بينها تونس، هذا بالإضافة إلى أن الملايين من أفراد الجاليات المغاربية المستقرين في أوروبا قد تطالهم التضييقات التي سوف يسعى لفرضها البرلمان الأوروبي الجديد والحكومات الأوروبية المتوائمة مع أجندات أقصى اليمين.
وسواء انتصر حزب "التجمع الوطني" أم لم ينتصر في انتخابات فرنسا القادمة، فإن موضوع الهجرة سوف يبقى ضمن الإشكاليات التي تنعكس على العلاقات التونسية الأوروبية. بل إن من الأرجح أن تتحمل تونس تبعات السياسات الأوروبية الرامية إلى وقف الهجرة غير النظامية، بخاصة إن واصلت بلدان الاتحاد الأوروبي عدم الاهتمام جدياً بمعالجة جذور مشكلة الهجرة في بلدان أفريقيا جنوب الصحراء.
والغالب على الظن أن تدفع قوى أقصى اليمين إلى اتخاذ المزيد من الإجراءات الأمنية لكبح جماح الهجرة غير الشرعية نحو شواطئ أوروبا وجني المنافع السياسية والانتخابية من مواقفها تلك.
وفي المقابل، سوف تجد بلدان شمال أفريقيا، وتونس على وجه التحديد، نفسها تدفع ثمناً يفوق طاقتها إذا ما أريد لها أن تلعب دائماً دور الحاجز الأخير أمام تدفق المهاجرين.
وإذ تتقاطع دروب تونس وأوروبا مثل كل مرة، فإن موضوع الهجرة سوف يكون في قلب المنعطفات القادمة. وليس لتونس من خيار سوى التأقلم مع الضغوط المتناقضة التي يفرضها صعود اليمين مهما ارتفعت الأسوار التي يبنيها حول أوروبا.