خلافاً للمتوقع، لم يخرج قادة دول الاتحاد الأوروبي ليل الإثنين الماضي بقرار الموافقة الأولية على أسماء المرشحين لرئاسة المفوضية ورئاسة المجلس ورئاسة البرلمان الأوروبيين. وتتواصل المحادثات وراء الكواليس بحثاً عن مخرج يجري تأكيده في قمة رسمية أواخر هذا الشهر، قبل أن يذهب المرشحون إلى البرلمان الجديد لنيل ثقته. وقد يطول انتظار الترشيحات التي يحتاج أصحابها إلى تأييد 15 من زعماء الدول الـ27 على الأقل.
وكان كل من المستشار الألماني أولاف شولتس والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أوحى بأن الاتفاق على أسماء كبار المسؤولين الجدد قد تم سلفاً. لكن النتيجة لم تأتِ كما لمّحا إليه، مع أن لهما وزنهما في ما يتعلق بهندسة سياسات الاتحاد وعمله لأن بلديهما هما صاحبا العدد الأكبر من أعضاء البرلمان الأوروبي. لا بل بدا رئيس المجلس الأوروبي المنتهية ولايته شارل ميشال، وكأنه يناقضهما، حينما ذكر أن الزعماء التقوا تلك الليلة على العشاء للتداول وليس بغرض اتخاذ قرارات!
والواقع أن التباين بين ما ذكره الزعيمان وما حصل في الواقع، يفتح الباب على احتمالات عدة. ربما لم يعودا قادرين على التأثير في خيارات الاتحاد لأنهما تعرضا للتو لهزيمتين كبيرتين لا تزال إحداهما تشغل ماكرون عن كل ما عداها، أم لعل علاقاتهما المتوعكة تمنعهما من توحيد صفوفهما؟
الواضح أن ما بعد إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة في 10 حزيران (يونيو) ليس كما قبلها. ثمة حقائق جديدة لا بد من أخذها في الاعتبار. فقد حقق بعض اللاعبين مزيداً من المكاسب الانتخابية، وباتوا يطالبون بنصيب أكبر من المناصب القيادية في مؤسسات الاتحاد.
هكذا لم تعد كتلة "حزب الشعب الأوروبي"، المؤلفة من أحزاب اليمين ويمين الوسط التي فازت بأربعة مقاعد، ما رفع حصتها إلى 190 مقعداً (من أصل 720)، ترضى برئاسة المفوضية والبرلمان، فحسب. مثلاً، كتب أحد قادتها رئيس وزراء كرواتيا أندريه بلينكوفيتش، أنها "يجب أن تقود الاتحاد الأوروبي سياسياً" بوصفها تصدرت الظافرين في الانتخابات.
لقد ساد الاعتقاد في وقت سابق على الاجتماع أن كلاً من رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين (65 عاماً) ورئيسة البرلمان روبرتا متيسولا (45 عاماً)، ستنال ولاية ثانية. لكن عائلتيهما البرلمانيتين طالبتا بنصف فترة رئيس المجلس الأوروبي الكاملة، وهي خمس سنوات، علماً أنه يُعين لسنتين ونصف سنة ثم يُمدّد له ليبقى على رأس عمله طيلة عمر البرلمان.
أثار هذا "الجشع" حفيظة كتلة "الاشتراكيين والديموقراطيين" الذين كانوا قد رشحوا للمنصب أنطونيو كوستا (63 عاماً) رئيس وزراء البرتغال السابق. والكتلة التي يقودها شولتس ورئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، لا ترى أن نصيبها فضفاض حتى يقاسمها عليه المحافظون، ثم إنها حلت ثانياً في البرلمان من حيث العدد بـ135 مقعداً وخسارة 3 فقط.
ولم ترشح معلومات عن وجود معارضة خلال الاجتماع الأخير لرئيسة وزراء إستونيا مايا كالاس، مرشحة كتلة الليبراليين "رينيو" (جددوا)، لوظيفة الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية. كما لم يُسرب شيء عن احتجاجات على التمديد لفون دير لاين، الذي تعارضه إحدى فئتي اليمين المتطرف.
انتقد زعيمان شعبويان، هما رئيس وزراء هنغاريا فيكتور أوربان، ونظيرته الإيطالية جورجيا ميلوني، النهج الذي اتبعه القادة في انتقاء الأسماء قبل الاتفاق على السياسات التي سينفذونها. وكانت للأول اتهاماته المعتادة بخصوص التقصير المفترض بمكافحة الهجرة. لكنهما لم يعرقلا الاجتماع.
الأغلب أن الخلاف على تقاسم ولاية رئيس المجلس هو الذي أعاق التوصل إلى نتائج واضحة. ولم تكن المزاعم بشأن تورط كوستا في فساد مارسه وزراء وموظفون كبار في حكومته، هي القشة التي قصمت ظهر البعير. فقد جاء من السلطات القضائية البرتغالية ما يشير إلى براءته. كما أن الاعتراض عليه لهذا السبب كان سيستدعي وضع إشارات استفهام على ترشيح فون دير لاين المتهمة بممارسة المحسوبيات والفساد، لا سيما في فضيحة لقاحات فايزر.
وقيل قبل الاجتماع، إن هناك ما يشبه الإجماع بين القادة على مهارة كوستا الذي تجري دماء هندية في عروقه وعلى دماثة أخلاقه. إلا أن البعض أخذ عليه "التراخي" في التعامل مع الغزو الروسي لأوكرانيا. وهي التهمة المعاكسة لتلك التي كانت من نصيب كالاس. فقد أبدى زعماء موالون لموسكو تحفظهم عن إعطاء حقيبة الخارجية لسياسية "تؤيد الحرب"، كما قالوا. وإذا كانا فعلاً على طرفي نقيض حيال الغزو الروسي، فهما على وفاق واضح بشأن الحق الفلسطيني والاجتياح الإسرائيلي لغزة.
وفي الوقت الذي هرعت فيه فون دير لاين وميتسولا بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) للشدّ على يدي بنيامين نتنياهو، كانت كالاس تشجب الهجمات وتدعو إلى حماية المدنيين الفلسطينيين. وخلافاً لغالبية نظرائها في الغرب، لم تتعامل بمعايير مزدوجة مع مأساة أوكرانيا وغزة. وقالت في 18 تشرين الأول: "أشعر بالصدمة للخسائر بالأرواح بين الأبرياء في مستشفى الأهلي. يجب أن تُحترم حياة المدنيين أينما كانوا". وقد صوتت بلادها في 10 أيار (مايو) الماضي لمصلحة قرار الهيئة العامة للأمم المتحدة الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
وكوستا، المؤيد العتيق لحل الدولتين، أقرّ في 7 تشرين الأول بحق إسرائيل في "الدفاع عن نفسها" شرط أن "تحترم المدنيين من أبناء فلسطين". وندد في 18 تشرين الأول بتدمير مستشفى الأهلي داعياً إلى إجراء "تحقيق مستقل لكيلا يكون هناك أي شك حول هوية من أطلق الصاروخ" عليه. وشدّد على وجوب "وقف حقيقي لإطلاق النار" وإقامة "ممر إنساني" لإيصال المساعدات إلى الغزاويين الأبرياء.
لكن ماذا يستطيعان أن يفعلا حتى إذا وصلا إلى اثنين من أبرز خمسة مناصب في الاتحاد الأوروبي المتشرذم سياسياً، والمنقسم حول فلسطين، الذي يجهد الآن للحديث عن أوكرانيا بصوت واحد، والعاجز عن الاتفاق إلا على عدم الاتفاق؟