تحاول إسرائيل منذ بداية حرب غزة وانخراط "حزب الله" المحدود والمدروس فيها التهويل على لبنان بحرب مدمرة كتلك التي تخوضها على القطاع الفلسطيني الذي أصبح ركاماً يثقل على عشرات آلاف الضحايا وأكثر من مئة ألف جريح، فضلاً عن تشريد غالبية سكانه المليونين ونيف الذين أصبحوا بلا غذاء ولا ماء ولا دواء ولا مستشفيات ولا منازل.
تأتي التهديدات من السياسيين ومن العسكر على حد سواء، من المتطرفين اليمينيين، ومن المصنفين أقل تطرفاً (إذا كان في إسرائيل من هم أقل تطرفاً). وكلها تأتي تحت عنوان واحد: تدمير لبنان على رأس "حزب الله" ورؤوس اللبنانيين جميعاً وإعادته مئة سنة إلى الوراء.
تتكرر التهديدات الإسرائيلية للبنان يومياً، ومع كل مقذوف يطلقه "حزب الله" باتجاه مستوطنات الشمال الإسرائيلية، ومع كل تحرك لسكانها المهجرين الذين أصبحوا يشكلون عبئاً على حكومة نتنياهو بسبب مطالبتهم المتكررة بإنهاء الوضع على الحدود مع لبنان جذرياً ما، يؤمّن عودتهم "الآمنة" إلى المزارع والمصانع التي تركوها على عجل منذ الأيام الأولى لحرب غزة.
التهديدات العالية اللهجة والمفرطة الثقة بالقدرة على التدمير والقتل حتى التجويع وإعادة التاريخ مئة سنة إلى الوراء خلقت انطباعاً وهمياً بقدرة إسرائيل اللامحدودة على الانتصار في أي حرب تخوضها وعلى تنفيذ أغراضها بمجرد اتخاذ القرار بذلك. كأن المسؤولين الإسرائيليين يقولون للبنانيين والعالم "الدور آت على لبنان ولن نرد على أحد".
تخوض إسرائيل حرباً نفسية على لبنان بهدف تحطيم معنويات أهله جميعاً، وخصوصاً أهل الجنوب والطائفة الشيعية خاصة، وإذا كانت قد نجحت نسبياً في بعض الأحيان، إلا أن الوقع اليومي اللبناني لا يشي بكثير من الرعب. ربما بسبب تعود اللبنانيين على مآسي الحروب الداخلية والإسرائيلية، ففيما كانت الطائرات الإسرائيلية تقصف القرى الجنوبية وتغتال عناصر "حزب الله" في المنازل وعلى الطرق كان عشرات الآلاف يتجمعون في بيروت ليغنوا ويرقصوا مع المغني المصري عمرو دياب، وبينهم بالتأكيد كثر من أهل الجنوب ومن مؤيدي "حزب الله". وسيأتي مطربون كثر عرب وأجانب ليحيوا مهرجانات حافلة في مختلف المناطق اللبنانية. ربما يكون ذلك من المفارقات التي تؤخذ على اللبنانيين، لكنها لا تخلو من دلالات عدم الاكتراث كثيراً بالهول الذي قد يأتي.
قد تكون الحرب النفسية الإسرائيلية فد أثارت خوفاً أكبر في فرنسا وبعض أوروبا، أو في أميركا أيضاً، وهو خوف على لبنان الذي ما زال حاجة غربية في المنطقة التي انخرط جناح منها في المشروع الشرقي ويجنح جناح منها نحو استقلالية ذات دلالات، وكذلك خوف على إسرائيل أيضاً، ولو مضمراً.
يأتي المبعوثون الفرنسيون والأميركيون إلى المنطقة، وآخرهم آموس هوكشتاين، تحت عنوان واحد: إقناع إسرائيل بعدم الهجوم على لبنان، وإقناع "حزب الله" بوقف إطلاق الصواريخ والمسيرات على إسرائيل والانسحاب من خطوط التماس بضعة كيلومترات إلى الخلف لتسهيل عودة المستوطنين المهجرين من شمال فلسطين المحتلة.
يحمل المبعوثون التهديدات الإسرائيلية إلى لبنان وكأن الهجوم واقع غداً والقرار متخذ على أعلى مستوى في حكومة الحرب الإسرائيلية.
تتراوح التحليلات بين متوقع للحرب على لبنان ومستبعد لها. لا يؤخذ بالتحليلات، خصوصاً على شاشات التلفزة العربية واللبنانية، فمعظمها إما أمنيات وإما معلومات منقولة من هنا وهناك. الحرب قرار خطير له نتائج كارثية على كل أطرافه واتخاذ القرار ليس أمراً سهلاً. حتى نتنياهو المحشور بين يمينه المتطرف الممسك بخناق الأكثرية المؤيدة للحكومة في الكنيست وبين الانقسامات السياسية وتصاعد المعارضة ضده، وبين إصراره على إكمال حرب إزالة غزة من الوجود والتمسك بموقعه السياسي، نتنياهو هذا الذي يشهد تاريخه الطويل في السياسة على عناده ودمويته يعد للألف قبل بدء حرب جديدة واسعة على الجبهة مع "حزب الله".
لماذا؟
لأن حرباً على "حزب الله" ولبنان لن تكون بمستوى حرب غزة لأسباب إسرائيلية ولبنانية وإقليمية ودولية. لبنان ليس غزة و"حزب الله" ليس "حماس" ولم يخترق حدود إسرائيل وينفذ عملية طوفان، والبلد يحظى بتعاطف دولي ورعاية من دول فاعلة... لكن ليس هذا ما يصعّب القرار الإسرائيلي باجتياحه، فقد اجتاحته إسرائيل عام 1978 وعام 1982 ودمرت ما دمرت من في حروب أعوام 1993 و1993 و1996 و2006.
أي حرب قد تخوضها إسرائيل على لبنان ستكون مدمرة للبنان، ولكن لإسرائيل أيضاُ. صحيح أن إسرائيل تمتلك تفوقاً في التسليح والتكنولوجيا وتسيطر على الجو بقوة النار والاستخبارات ودقة المعلومات التي توفرها لها أقمارها الاصطناعية وأقمار حليفتيها أميركا وبريطانيا، وربما غيرهما، وتمتلك طائرات لا ترى ولا ترصد تستطيع أن تطال كل الأراضي اللبنانية من أي مكان ... وما إلى ذلك من قوى الدعم التي تؤمنها لها أميركا التي يتنافس مرشحا الرئاسة فيها على كسب ودها لأسباب استراتيجية وعقائدية وعاطفية، لكن الصحيح أيضاً أنها تواجه حرباً معقدة غير مضمونة النتائج.
إذا وقعت الواقعة ستدمر إسرائيل الكثير من العمران في الجنوب والضاحية الجنوبية وغيرهما، وهو أمر حصل مرات ويحصل الآن، وستدمر منشآت حيوية لبنانية، وهذا يحصل مع كل حرب على لبنان، وستقتل الكثير من الناس وترتكب مجازر كما فعلت وتفعل دائماً، لكن حربها هذه المرة ستكون أكثر تعقيداً.
الواقع يفرض نفسه، والتجربة تقدم البرهان. ستكون إسرائيل في مواجهة قوة تملك مئات آلاف الصواريخ من كل القياسات والأنواع، ظهر منها ما ظهر وخفي ما خفي، ومن الطائرات المسيرة الانتحارية والهجومية ما لا أحد يعرف عدده، وهي قادرة على الوصول إلى أي مكان وأي منشأة حيوية في إسرائيل من حيفا حتى مفاعل ديمونا النووي، فضلاً عن المطارات والموانئ والمصانع الكيماوية والمنشآت الحيوية. ستعترض القبة الحديدية و"مقلاع داود" الكثير منها لكن سيصل الكثير أيضاً، وإذا نفذ "حزب الله" سياسة منشأة ضد منشأة فسيكون الضرر في إسرائيل أكبر أخذاً في الاعتبار الفارق بين أحجام منشآت البلدين.
ورغم المشاركة الأقل من المأمولة لإيران في حرب غزة، قد لا يكون الأمر مشابهاً إذا شنت إسرائيل حربها على "حزب الله" الابن البكر والمحبب إلى المرشد الإيراني ونظامه ويعتبر "درة تاج" إيران في المنطقة. يقول الإيرانيون علناً إنهم لن يتركوا "حزب الله" وحيداً. سيحركون جبهة البحر الأحمر وميليشيات العراق وربما ميليشيات سوريا من أجله. الأرجح أن حرباً على لبنان ستتحول حرباً إقليمية وهذا ما يدركه الأميركيون والفرنسيون والإسرائيليون أيضاً وربما لهذا لن تندلع الحرب.
لكن ذلك لا يسقط فرضية الحرب، فقد تشعلها شرارة أو تصرف غير محسوب، وإذا وقعت الواقعة فلن تبقي ولن تذر لا في لبنان ولا في إسرائيل.