تشكّل استراتيجية "وحدة الساحات" التي فتح "حزب الله" على أساسها جبهة جنوب لبنان تحت شعار "على طريق القدس"، إشكالية كبيرة في ما يخصّ علاقة الحزب المستقبلية ببيئته وبالقوى السياسية في لبنان. فالحزب يحاول السيطرة على الرواية في عملياته من أجل إظهار خطواته منسجمة مع مصلحة بيئته والبلد، طبعاً بحسب تعريفه هو لهذه المصلحة.
لكن مسألة "توحيد الساحات" جعلت لبنان عرضةً لأن يكون جزءاً من ساحة مواجهة في كل نزاع عسكري تدخل فيه إيران، أو أي من وكلائها في محور الممانعة، مثل "حماس" و"الجهاد الإسلامي" و"الحوثيين" في اليمن وميليشيات "الحشد الشعبي" العراقية أو الميليشيات الشيعية في سوريا. فالحزب يصرّ اليوم على أنه لن يدخل في أي مفاوضات لوقف النار في جنوب لبنان قبل انتهاء الحرب في غزة، التي قد تطول أشهراً أخرى. فهو فتح الجبهة في 8 تشرين الأول (أكتوبر) تضامناً مع "حماس" في غزة، لإظهار التزامه استراتيجية "وحدة الساحات"، ما يعني أن جبهة الجنوب ستفتح مجدداً في حال تعرّض إيران أو أي مجموعة من مجموعات الممانعة الأخرى لهجوم عسكري كبير في المستقبل.
هذا الواقع يجعل المواجهة مع إسرائيل اليوم مختلفة بشكل كبير عن "حرب تموز 2006"، ليس في قدرات الطرفين ونوعية السلاح فحسب، بل أيضاً في الرواية التي برّرت خوضها، وما يترتب عليها من أعباء على اللبنانيين عموماً، وبيئة "حزب الله" خصوصاً. فالحرب السابقة شُنَّت في وقت لم تكن "حماس" تسيطر فيه على قطاع غزة، ولا "الحوثي" على شمال اليمن، ولا يوجد "حشد شعبي"، وقبل اندلاع الثورة السورية. كانت الجهود الداخلية حينها منصبّة على مناقشة سياسة الدفاع اللبنانية، وكان الوضع على الحدود مع إسرائيل غير مستقر يشهد عمليات عسكرية من وقت إلى آخر. هدف العملية التي شنّها الحزب ضدّ دورية إسرائيلية، والتي أدّت إلى اشتعال الحرب، كان أسر جنود واستخدامهم لاسترجاع أسرى الحزب كلهم من إسرائيل. طبعاً، الجميع يذكر كلمات السيد حسن نصر الله الشهيرة لاحقاً: "لو كنت أعلم".
رواية "حزب الله" منذ حينها أنه يتسلّح ويتجهز لتعزيز الردع ضدّ إسرائيل، إلّا أنه أبقى جبهة الجنوب هادئة، ولم يسمح بشنّ أي عملية ضدّ إسرائيل، وتحولت سوريا إلى ساحة المواجهة بين الدولة العبرية وميليشيات محور الممانعة. ذهب البعض إلى تشبيه واقع جبهة الجنوب بالهدوء الذي سيطر على جبهة الجولان طوال عهد حافظ الأسد ولاحقاً عهد ابنه بشار، قبل اندلاع الثورة. وكانت كلمات نصر الله وخطابات قادة الحزب على مدى السنوات الماضية تتحدث عن مدى نجاح الردع، وأن إسرائيل لن تجرؤ على مهاجمة لبنان. وكان هناك تطمينات من قيادات الحزب لسكان الجنوب الذين يشكّلون حاضنة الحزب التقليدية، بأنه لن يكون هناك أي أعمال عسكرية. وشهدت المنطقة استقطاباً كبيراً للاستثمارات من الخارج. وكان هناك جهد واضح من الحزب وحلفائه لإشاعة الأمن والاستقرار وتنمية الثقة لدى أهل المنطقة بأن لا حرب جديدة، ولن يُهجّروا مجدداً من منازلهم. وأتى ترسيم الحدود البرية ليرفع الآمال بأن منطقة الجنوب مقبلة على مرحلة انتعاش اقتصادي، في وقت كان هناك تجديد سنوي لقوات "اليونيفيل" ضمن قرار مجلس الأمن 1701، نتيجة لاستمرار الأمر الواقع مع تنامي نفوذ "حزب الله" السياسي والأمني والاقتصادي في لبنان.
بقيت رواية "حزب الله" عن أهمية صوغ سياسة دفاعية للبنان قائمة على ثلاثية "جيش وشعب ومقاومة"، مع التشديد على استقلالية المقاومة التي يتفرّد "حزب الله" بإدارتها وبعملها، لتشكّل ضمانة لحماية لبنان من العدو الإسرائيلي. وعندما طرح البطريرك مار بشارة بطرس الراعي مسألة حياد لبنان، كان موقف "حزب الله" قائماً على استحالة الحياد، نظراً إلى استمرار التهديد الإسرائيلي واحتلاله أراضي لبنانية. بالتالي، إصرار "حزب الله" على أن يبقى هو ومعه لبنان (بحكم الأمر الواقع) ضمن محور الممانعة كان يأتي ضمن رواية تعزيز ردع لبنان ومنع الاعتداءات الإسرائيلية عليه.
لكن في 8 تشرين الأول، كان قرار الحزب الدخول في حرب إرادية ضدّ إسرائيل صادماً للأغلبية العظمى من اللبنانيين بشكل عام، وسكان الجنوب بشكل خاص. وحاول بادئاً أن يسوّق رواية مواجهات ضمن قواعد اشتباك تحمي المدنيين. لكن قواعد الاشتباك هذه بدأت بالتآكل تدريجياً. وعندما ارتفعت صرخة أهالي الجنوب، جاء الجواب بأن الأمر ينتهي خلال أسابيع، وتحديداً فور التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة. بالفعل، ساد اعتقاد واسع في أوساط العديد من سكان الجنوب ومسؤولي "حزب الله" عند هدنة تبادل الأسرى بين "حماس" وإسرائيل بأن الحرب انتهت. لكنهم فوجئوا عندما استأنف "حزب الله" عملياته العسكرية بعدما أنهت إسرائيل هدنة حرب غزة، وبدأت قيادة "حزب الله" تسوّق بشدّة لرواية أن عمليات الحزب ضرورية لإسناد "حماس" لإنهاء حرب غزة، ولثني إسرائيل عن شن عمل كبير ضدّ "حزب الله" في جنوب لبنان بعد أن تنتهي من غزة. وبما أن إسرائيل استمرت في الحرب فترة أطول كثيراً مما توقّع "حزب الله" – وما زالت مستمرة من دون أي إشارة إلى أنها ستنتهي قريباً – فإن السيد لم يعد يطلب من قاعدته الشعبية الانتظار أسابيع إضافية قليلة على نهاية الحرب، بل تركّز روايته على الحاجة إلى ردع إسرائيل عن شنّ حرب على لبنان، والاستمرار في إسناد غزة لمنع إسرائيل من تحقيق أي نصر استراتيجي على تلك الجبهة، أي الاستمرار في "وحدة الساحات".
بعد كل ما جرى من قتل ودمار وتهجير ضمن الروايات التي اعتمدها "حزب الله" حتى اليوم، فإن مجموعة أسئلة تطرح نفسها: كيف يمكن "حزب الله" أن يَعِدَ سكان الجنوب مستقبلاً بالأمن والاستقرار، وبأنهم لن يُهَجَّروا مجدداً إذا كان يريد أن يستمر في تنفيذ استراتيجية "وحدة الساحات"؟ فهذه الاستراتيجية تربط أمن لبنان والجنوب بأمن اليمن وغزة، والعراق، وسوريا، وإيران... فأي هجوم عسكري كبير مستقبلاً تشنّه إسرائيل أو أميركا ضدّ أي من قوى محور الممانعة سيؤدي إلى قرار فتح الجبهة مع إسرائيل مجدداً. حتى في موضوع التزام لبنان تنفيذ القرار 1701، كيف يمكن أن يكون ذلك ممكناً ضمن استراتيجية "وحدة الساحات"؟
أما في خصوص السياسة الدفاعية للبنان، فواقع الحال ضمن "وحدة الساحات" تحتّم على أن يكون لبنان في تحالف عسكري شفهي ملزم مع أعضاء محور الممانعة، وأن يبقى مستعداً للدخول في حرب كلما واجه أحدهم حرباً مع أميركا أو إسرائيل. طبعاً، هذا يُعقّد الأمور أكثر مع قوى المعارضة اللبنانية، ويهدّد السلم الأهلي مستقبلاً.
أهم سؤال هو: هل حقّقت استراتيجية "وحدة الساحات" فعلاً هدفها المعلن، أي وقف حرب غزة؟ لا يبدو ذلك، أقله حتى الآن، وبعد مضي أكثر من ثمانية أشهر على الحرب. ومن الواضح أن هذه الاستراتيجية تخدم إيران وحدها، التي تسعى إلى الاستفادة من هذه الجبهات لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية من أميركا والقوى الإقليمية والعالمية. لكن "حزب الله" سيسعى إلى تبنّي روايات جديدة بهدف تحقيق مكاسب سياسية داخلياً، وتعزيز نظرية السياسة الدفاعية التي روّج لها دائماً، والتي تقتضي تشريع سلاح المقاومة وإبقاءها مستقلة عن القرار السياسي للدولة وتسليمها قرار السلم والحرب. وبعدما حصل على قرار من حكومة تصريف الأعمال دفع تعويضات لشهداء الحزب ضمن مبدأ دعم أهل الجنوب، فإنه سيضغط بشكل أكبر للحصول على تمويل إضافي من الحكومة لدعم الجهد الحربي الحالي. وهذا يمهّد الطريق أمامه للعمل خلال عهد رئيس الجمهورية المقبل لمحاولة تشريع سلاح المقاومة، وربط لبنان أكثر بمحور الممانعة، بغض النظر كيف يمكن أن تنتهي الحرب الحالية. فهو لم يتخلَّ عن مكاسب حقّقها سابقاً تحت مسمّى "العرف"، ولن يغيّر ذلك تلقائياً.