كان العراقيون يطلقون على تموز (يوليو) شهر الثورات. في 14 منه في عام 1958، وقع الانقلاب العسكري الذي تزعمه العميد عبد الكريم قاسم، وطوى العراق فيه صفحة نظامه الملكي ليبدأ عصره الجمهوري. وفي 17 منه في عام 1968، استعاد البعثيون السلطة التي فقدوها في عام 1963 في انقلاب أطلقوا عليه تسمية "الثورة البيضاء"، لأن وصولهم إلى الحكم لم يتمّ عبر مذبحة كما حدث في المرّة السابقة.
بطريقة يغلب عليها التأويل المرح، يربط العراقيون بين درجات الحرارة العالية في ذلك الشهر ومزاجهم الانقلابي. في تشرين الأول (أكتوبر) 2019، حين انفجرت الاحتجاجات في شوارع وساحات بغداد ومدن عراقية أخرى، كانت مسألة الكهرباء واحدة من أهم الأسباب التي دخلت في قائمة المطالب الخدمية. فبعد صيف ساخن كالعادة انقطعت فيه الكهرباء، سمح العراقيون لمزاجهم بالتحول من سياقه الفردي إلى حالة غليان جماعية.
اليوم، إذ تتهيأ مدن الجنوب العراقي ذات الأغلبية الشيعية لاحتجاجات من نوع مختلف، ليس مستبعداً أن يتمّ اعتبار الطقس الساخن في مقدمة الأسباب، وذلك من أجل التغطية على الأسباب الحقيقية التي تعيد الديموقراطية بمفهومها العراقي إلى قفص المساءلة. ذلك لأنها على الأقل أنتجت كياناً عنوانه "الحكومة المحلية" في كل محافظة، وهو ما لم يعهده العراقيون منذ تأسيس الدولة العراقية في عام 1921 حتى إلغائها بقرار من سلطة الاحتلال الأميركي في عام 2003. ذلك الاختراع كان إلغاؤه واحداً من مطالب محتجي "تشرين" التي استجاب النظام السياسي لها. أُلغيت مجالس المحافظات في عهد رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، لكنها عادت إلى العمل في عهد خلفه محمد شياع السوداني بأوامر صدرت من تحالف الإطار التنسيقي الحاكم.
فساد يتخفّى بالنزاهة
مجالس المحافظات أو الحكومات المحلية هي عنوان أزمة جديدة تلوح في الأفق، قد تكون سبباً في انفجار الشارع العراقي، بالرغم من أن النظام السياسي كان قد تعلّم كيف يكون مستعداً لإجهاض أي محاولة احتجاجية جديدة.
وقبل أن أدخل في تفاصيل ما يجري، ينبغي الإشارة هنا إلى أن الانتخابات البلدية التي أُجريت في كانون الأول (ديسمبر) 2023 أسفرت عن ذهاب معظم الأصوات إلى سلّة تحالف الإطار التنسيقي والأحزاب التي تحظى بدعمه، بعد امتناع مقتدى الصدر وتياره عن المشاركة. وهو ما يعني اتساع الدائرة التي تهيمن عليها الأحزاب والميليشيات الموالية لإيران. غير أن ذلك لا يعني بالضرورة غياب تضارب المصالح كلياً. فإذا كان عمل مجلس المحافظة ينحصر في التخطيط والاستشارة والرقابة، فإن علاقته بما تناله المحافظة من مخصصات مالية داخل الموازنة العامة لا يمكن إلّا أن تدخل في متاهة الصفقات المشبوهة، وهو ما يحوّل أعضاء المجلس بنسب متباينة إلى سماسرة عقود. في ذلك الكثير من الفساد الذي يمكن أن يعطّل معظم المشاريع الخدمية. لقد خرج أعضاء سابقون في مجالس المحافظات بثروات هي ثمن تمريرهم مناقصات تحوّلت إلى تل من الأوراق، على الرغم من أن مقابلها المادي كان قد صُرف كما لو أنها قد وجدت طريقها إلى التنفيذ على أرض الواقع.
كل هذه المنافع الجانبية التي تعبّر عن عملية سرقة منظمة لا يمكن أن تمرّ من غير صراع بين المستفيدين الذين يعتقد بعضهم أن حصته قد تمّ قضمها أو التلاعب بها. وهنا بالضبط يبدأ الابتزاز السياسي الذي يحتمي بالنزاهة.
مظلومية من طراز معاصر
في عام 2017، هرب محافظ البصرة ماجد النصراوي إلى إيران، بعدما صدرت أوامر قضائية بإلقاء القبض عليه استناداً إلى تقارير هيئة النزاهة التي اتهمته بالفساد. ولو لم يكن النصراوي الذي يحمل الجنسية الأسترالية يدرك جيداً أن إيران لن تتخلّى عنه لما ذهب إليها في طريقه إلى وطنه البديل. وذلك يفسّر زيارة اسماعيل قآني الأخيرة للعراق، والتي تهدف إلى فضّ الاشتباك بين أعضاء مجالس بعض المحافظات، قبل أن ينتقل ذلك الصراع إلى العلن ويتخذ طابع احتجاجات شعبية، ليست بعيدة من المزاج العراقي الملتهب، تزامناً مع فصل الصيف الذي اعتاد العراقيون على أن ينقطع فيه التيار الكهربائي. وهذا يعني أن الإيرانيين حتى اللحظة لم يتوصلوا إلى وصفة فساد نموذجية تنأى بهم عن القلق على مصالحهم وتريح أعصابهم. وليس مستبعداً أن تقف إيران وراء الدعوات التي انتشرت مؤخّراً لإسقاط المجالس البلدية في عدد من المحافظات، لا لشيء إلّا لأن رجال دين شيعة هم الذين تبنّوا تلك الدعوات.
سيكون صعباً أن نصدّق أن هناك دوافع وطنية تقف وراء ذلك التحول، وخصوصاً بعدما طويت مسألة نزاهة التيار الصدري الوطنية، حين خرق زعيمه مقتدى الصدر الدستور وخان الأصوات التي انتخبته من أجل أن يستولي الموالون لإيران على السلطة المطلقة. ذلك لا يمنع أن الإيرانيين يخشون أن تخرج الأوضاع عن سيطرتهم كما حدث في تشرين الأول (أكتوبر) 2019، ما دفع بهم إلى محاولة إعادة ترتيب البيت الشيعي من أجل ألّا تفاجئهم المحافظات ذات الأغلبية الشيعية بمظلوميتها التي هي هذه المرّة صناعة شيعية خالصة.
تدوير الأزمات بدلاً من مواجهتها
في محاولة منه لإبطاء الحراك الشعبي المضاد، دعا رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي إلى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة، وهي دعوة تهدف أساساً إلى إجراء تغيير في الخريطة السياسية يقوم أصلاً على تدوير الأزمة وتشتيت الأصوات التي تشيد بمسعي رئيس الوزراء الحالي للنأي قليلاً بنفسه عن سيطرة قوى التحالف الحاكم، بعدما تبين له أن تلك القوى لن تتمكن في القريب العاجل من التستر على خلافاتها المرتبطة أصلاً بما تشهده مجالس المحافظات من صراعات، ستضع الحكومة الاتحادية في مواجهة مأزق احتجاجات قد لا تقوى على التصدّي لها.
أما محاولة محمد شياع السوداني لاسترضاء قيادات وكوادر الحشد الشعبي من خلال زيادة مكاسبها، فإنها تقع في إطار السعي وراء توسيع شقة الخلاف داخل التحالف الحاكم. كل هذه التجاذبات إنما هي تجسيد لاستمرار أزمة الحكم وعزلة النظام السياسي وفشله في ضبط مفاصله التي توجّهت بشكل كامل إلى إدارة ماكينة الفساد في بلد يغرق تدريجياً في مشكلاته الاقتصادية والاجتماعية.