جاء "المرسوم الاتحادي" الذي أصدره رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، بـ"تشكيل مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي"، ليسلط الضوء على الدور الذي يمارسه "المجلس" في مجال الإفتاء، والجهود التي تبذلها أبو ظبي في تطوير "الخطاب الديني" وجعله قائماً على الرحمانية التي هي جوهر الرسالة المحمدية التي بُعث بها نبي الإسلام محمد بن عبد الله، والذي قال فيه الحق تبارك وتعالى "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ".
"المرسوم الاتحادي" الذي نُشر أمس الأربعاء 19 حزيران (يونيو) الجاري، تزامن مع مرسوم اتحادي آخر، ينص على "تعيين معالي عبد الله بن بيه رئيساً للمجلس بدرجة وزير".
وجود فقيه متمرس يرأس "مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي" ذي خبرة عملية تمتد لعقود خلت وفهم حديث للنصوص القرآنية والنبوية، مثل الشيخ عبد الله بن بيه، يعطي "المجلس" ثقلاً علمياً، ويجعله قادراً على التعامل مع المسائل المستجدة، وتقديم رؤية فقهية حولها، تساهم في أن يعيش الإنسان المسلم حياة مستقرة روحياً ومواكبة للعصر الحديث، من دون أن يشعر أن هناك فجوة بينه وبين قيمه الدينية والأخلاقية التي يؤمن بها.
بن بيه عالم يأخذ في استنباطاته الفقهية بـ"مقاصد الشريعة"، أي أنه لا يبقي النص جامداً، بل يتعامل معه بطريقة حيوية تكيفه من دون تعسف ليتناسب مع تطور الزمان والمكان، ويجعله أيضاً متوافقاً مع القيم الإنسانية العليا، من دون الوقوع في إشكالية التناقض بين العقل والنقل!
التشكيلُ الجديد لـ"مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي" ضم شخصياتٍ عدة، من تجارب وحقول مختلفة، وجهاتٍ علمية وبحثية متنوعة.
هذا التنوع يدفعُ نحو التكامل العملي والتنسيق بين مؤسسات الدولة المختلفة في الإمارات، والمعنية بـ"الفتوى" وتطوير الخطاب الديني وتنظيمه ومنعه من التأثر بالأفكار المتطرفة أو الحزبية أو الطائفية.
من يقرأ الأسماء التي يتكون منها "مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي"، سيقف على مؤسسات عدة أتى منها المنتسبون إلى المجلس، ومن ضمنها: منتدى أبو ظبي للسلم، جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، مركز الموطأ للدراسات والتعليم، الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف والزكاة.. وسواها من المؤسسات التي يشكل وجود أعضاء منها أو رؤساء لها في "المجلس" عنصر ثراء وحلقة وصل بين مختلف هذه الجهات ليكون العمل في "الشأن الديني" أكثر تنسيقاً وانسجاماً ووفق رؤية استراتيجية قابلة للتطبيق.
وفق ما جاء في الموقع الإلكتروني لـ"مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي"، فإن له العديد من المهمات، وأبرزها "ضبط الفتوى الشرعية وتوحيد مرجعيتها، وتنظيم شؤونها وآليات إصدارها في الدولة، ومواجهة الإساءة إلى المقدسات والتكفير والتعصب المذهبي"، كما يختصّ المجلس بـ"الترخيص والتصريح بممارسة الإفتاء الشرعي في الدولة وتأهيل المفتين وتدريبهم وتنمية مهاراتهم"، وهي مهمات لم تعد اليوم من اختصاص الفقيه الواحد، بل تنهض بها المؤسسات عبر الهيئات واللجان المختصة والبحوث والدراسات التي يقدمها الخبراء كلٌ في مجاله.
في كانون الثاني (يناير) الماضي، وافق "المجلس الوطني الاتحادي" في الإمارات على "مشروعي قانونين اتحاديين بشأن الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف والزكاة، وبشأن مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي"، وفق ما نقلته "وكالة أنباء الإمارات"، وذلك بهدف "ترسيخ مكانة الفتوى وفق الهوية الوطنية للدولة محلياً وعالمياً، وتطوير التوجيهات والسياسات والتشريعات ذات الصلة بالفتوى، وتنظيم شؤونها وتمكين المجتمع الإماراتي بالفتاوى الاستباقية وبناء نموذج حضاري للفتوى يستجيب للمستجدات".
إن التغيرات التقنية والقيمية والسلوكية – الثقافية الكبيرة التي يمر بها الإنسان المعاصر، وأيضاً وجود دولة وطنية حديثة لها قوانينها وتشريعاتها الناظمة، والتي يقطنها مواطنون ومقيمون من ثقافات وأعراق عدة، كل ذلك جعل تطوير الخطاب الديني والفتوى وتنظيمها أمراً في غاية الأهمية، خصوصاً أن هناك جماعات مسيسة ومتطرفة تريد أن تستثمر في بناء مرجعيتها الفقية، التي قد تقوم بإصدار فتاوى تدفع نحو العنف أو التكفير أو الفوضى.
ليس "تسييس الفتوى" من قبل الإسلامويين هو الإشكالية الوحيدة، بل جمود الرأي الشرعي هو الآخر معضلة تعقد من حياة الفرد المؤمن، وتجعله في انفصام هوياتي بين معتقداته، من جهة، وتطلعاته، من جهة أخرى، لذا جاء العمل الحثيث والمتواصل في الإمارات بهدف تطوير بيئة الفتوى والخطاب الديني وتنظيمها، ومنع استغلال "الدين" من جماعات أو أفراد يودون اختطافه وتحويله إلى أداة صدام وكراهية، فيما الإسلام جوهره التعاون والتراحم بين البشر.