يترافق الذعر التكتيكي مع الذعر الاستراتيجي لدى جميع اللاعبين، الكبار منهم والصغار، إزاء تطورات غزة ولبنان، والجميع يبدون في ورطة السذاجة الممزوجة بالعنجهية، كلٌّ يرتكب أخطاءً فادحة مكلفة وجريمة ضد الإنسانية يرتكبها رجال إسرائيل و"حماس" و"حزب الله" وواشنطن وطهران. هؤلاء الرجال الذين يلعبون بالسياسة والحروب يتشابهون في افتقادهم الشجاعة التي تستدعيها الأوضاع الراهنة.
رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو جبان يرتهن غزة وأهلها بالقتل والجوع والتشريد والعنف المجنون، وذلك كي لا يواجه الإسرائيليين بعد الحرب ولا يدخل السجن بسبب فساده.
زعيم "حماس" العسكري يحيى السنوار يتباهى باحتجاز رهائن مدنيين ويختبئ تحت الأنفاق فيما شعبه يُدمَّر بمنهجية ويدفع ثمن غروره وأخطائه واستعداده للتضحية بأطفالهم من أجل انتصاره الشخصي الوهمي.
حسن نصر الله الذي يفاخر بأنه قبطان الأسطول الإيراني الذي يقود القرصنة في البحار والميليشيات في البر مرعوب من صفقة إيرانية - أميركية وراء ظهره، يكون فيها كبش فداء قابلاً للاستغناء عنه، وهو يريد البقاء زعيماً حتى آخر لبناني ضده.
إدارة الرئيس جو بايدن أوقعت نفسها في أكبر خطأ تكتيكي واستراتيجي عندما رهنت دبلوماسيتها ومقام الولايات المتحدة الأميركية برجلين هما: نتنياهو والسنوار. والآن، ها هو فريق بايدن الذي كان قد نجح في تحييد نسبي للبنان عن الحرب الأوسع يرتكب خطأً مذهلاً لأنه يفعل تماماً ما يفعله حسن نصر الله وهو الربط بين غزة ولبنان. وبالتالي إنه يرهن دبلوماسيته بـ"حزب الله".
رجال طهران يمعنون في عنجهيتهم وهم يقطعون رقاب بعضهم بعضاً بالقطن انسجاماً مع الطريقة الفارسية. كلهم يريدون خطب ود الولايات المتحدة ويتمنون أن يبقى جو بايدن رئيساً وأن يتم وضع الختم النهائي على الصفقات التي تدرّ عليهم النفوذ والهيمنة الإقليمية كما أموال النفط وعائدات القرصنة.
هؤلاء الرجال لا يريدون أن يحاربوا إسرائيل بالمباشر ولن يفعلوا. فلقد صنعوا القوات غير النظامية والميليشيات من أجل التضحية بها باسم وهم المقاومة وكي يكون وزنهم من ذهب عندما يحين وقت المقايضات. "حماس" أول قربان، الحوثي مؤهل. و"حزب الله" اقترب وقته للمقايضة.
في المعلومات أولاً، ثم نعود إلى العمق السياسي. مبعوث الرئيس الأميركي إلى لبنان وإسرائيل آموس هوكشتاين يحب إسرائيل ويحب لبنان، وهو صدقاً يود أن يجنبهما حرباً مباشرة بينهما. في البدء كان ناجحاً في احتواء توسّع قواعد الاشتباك بينهما وفي البدء كان محقاً في التركيز على متطلبات حل الخلافات، ليس فقط بين لبنان وإسرائيل بل أيضاً بين "حزب الله" وإسرائيل.
آموس هوكشتاين لجأ إلى أذكى سياسي في لبنان، رئيس مجلس النواب المخضرم نبيه بري الذي هو قطب من "الثنائي الشيعي" مع "حزب الله" رغم خلافات جذرية بينهما حول التصوّر والرؤية للبنان وبالذات لجنوبه. كان بري حلقة الوصل والتواصل والتفاوض والتفاهم بين إدارة بايدن و"حزب الله" الذي تصنفه واشنطن "إرهابياً".
إذاً، تفاوضت إدارة بايدن مع جهة "إرهابية" لنقل لأنها أرادت بحسن نية منع اندلاع حرب بين لبنان وإسرائيل، وسعت وراء صيغة دبلوماسية وسياسية تعيد "حزب الله" إلى وراء نهر الليطاني لتكون بينه وبين إسرائيل مسافة تمنع المواجهة العسكرية المباشرة.
براغماتية الدبلوماسية "الآموسية" أقرّت عملياً بأن "حزب الله" أقوى من الدولة، وأن سيادة الدولة يجب أن تأخذ المقعد الخلفي فيما التفاوضات قامت بين إدارة بايدن و"الثنائي الشيعي". مهما كانت نيّة آموس هوكشتاين (وهو صديق) فإنه ارتكب خطأً استراتيجياً وتكتيكياً خطيراً كسابقة وخطيراً كنتيجة. ورغم ذلك، فشل.
والآن، وفي زيارته الأخيرة هذا الأسبوع، أضاف هوكشتاين الإهانة إلى الجرح وتحدث بلغة "حزب الله" وليس بلغة اللبنانيين - أو نصفهم على الأقل - وبالتأكيد ليس بلغة سيادة الدولة. تحدث بلغة توأمة غزة ولبنان.
وللتأكيد، ليس القصد القول هنا إن في لبنان دولة فاعلة لها سيادة بل هي نصف دولة بسيادة مبتورة. لكن لا يحق للولايات المتحدة الأميركية أن توطّد وترسّخ واقعاً مرفوضاً بل يجب عليها عدم القيام بأي ما من شأنه أن يشرّع هذا النشاز.
تحدّث آموس مع الذين قابلهم بلغة تلازم المسارين، رابطاً بين مبادرة رئيسه لوقف النار في غزة ووقف الحرب بين إسرائيل و"حزب الله". توسّل إلى الذين قابلهم إقناع "حزب الله" بفك الارتباط بين غزة ولبنان فيما كان عليه أن يتحدث بلغة دولة كبرى تخاطب دولتين على شفير هاوية الحرب. لم يتحدث عن خريطة طريق إلى حل الخلافات بين لبنان وإسرائيل كما فعل في الماضي. تحدث عن استئناف الكلام عن تطبيق القرار 1701 بين نجاح مبادرة رئيسه بوقف النار في غزة.
التحذير الذي حمله هو إما القبول بالمبادرة بلا حرب، أو وقوع حرب ثم القبول بالمبادرة. أتى ليبلغ الحكومة اللبنانية ومحاوره الرئيسي نبيه بري أن يحملا رسالة إلى حسن نصر الله بأن عليه أن يأخذ التهديدات الإسرائيلية بحرب عليه وعلى لبنان بجدية بالغة. رسالته إلى حسن نصر الله كانت التالي: إن الحل الدبلوماسي قائم، لكن الوقت يداهمنا، ويجب ألا تضيّع الفرصة.
من أهم ما قاله آموس هوكشتاين هو التالي: نحن كأميركا لن نقدر أن نردع إسرائيل عن حرب على لبنان. حرب قد تؤدي إلى فتح جبهة إقليمية ستكون "بركانية". قال: نحن هنا لإيقاف هذه الحرب قبل أن تبدأ، لكن ليس في وسعنا أن نضمن إيقافها إذا ما بدأت.
هذا كلام مهم فحواه أن الولايات المتحدة حليف استراتيجي لإسرائيل وأن الاجتماعات "النارية" بين نتنياهو وهوكشتاين حيث اتهم نتنياهو إدارة بايدن بأنها تلبّي طلبات "حماس" بإصرارها على وقف النار حتى ولو موقتاً لن تغيّر جذور العلاقة الأميركية - الإسرائيلية.
ثم هناك موعد 27 حزيران (يونيو) موعد المناظرة بين المرشحين للرئاسة، الرئيس الحالي جو بايدن والرئيس السابق دونالد ترامب. هذه مناظرة قد تكون حاسمة وأهميتها في غاية الخطورة. لذلك أراد فريق بايدن إنجاز نجاح مبادرته قبل المناظرة، ولذلك يخشى فريق بايدن أن يؤدي تعنّت بنيامين نتنياهو ويحيى السنوار وحسن نصر الله إلى خسارة بايدن المناظرة والرئاسة.
عودة إلى أين نحن في الواقع وعلى الأرض، آموس هوكشتاين على حق في قوله إن يحيى السنوار يأخذ 120 رهينة في غزة وأن حسن نصر الله يأخذ 4 ملايين رهينة لبنانية ما دام يربط مصير لبنان بمصير غزة. صحيح أيضاً أن يحيى السنوار قد تكون شخصيته انتحارية لأن نرجسيته خارقة، بينما حسن نصر الله أقل تهوّراً لأن نرجسيته منضبطة بمجلس شورى وبحرس ثوري إيراني لن يسمح له بأن يتمتع بها بالمطلق. السنوار لن ينادي نصر الله إلى الانتحار لأنه يقيّم أخذ 4 ملايين لبناني رهينة لنرجسيته.
إسرائيل بكل أركانها العسكرية والسياسية والشعبية تريد الانتقام بتحقيق انتصار كيفما كان. إنها في ورطة وهي في حاجة إلى إنقاذ ماء الوجه بعد فشلها بالعثور على السنوار حتى بعدما دمرت البيوت وقتلت الأطفال وشردت الملايين. أمامها خيار مغر هو شن حرب جديّة وعنيفة لتدمير كامل البنية التحتية لـ"حزب الله" في لبنان حتى ولو اقتضى الأمر تدمير البنية التحتية المدنية للبنان برمّته.
إسرائيل في حاجة إلى نجاحٍ ما، إلى نصر عسكري ما، إلى إنجازٍ يرحب به الغرب وكثيرون غيره في العالم وهو: القضاء على "حزب الله". إزالة "حزب الله". تدمير أنفاق "حزب الله" الممتدة من جنوب لبنان إلى عاصمته إلى شماله. اغتيال حسن نصر الله وليس فقط قيادات حزبه، فقد توصلت إسرائيل إلى اختراق رهيب لـ"حزب الله" وقياداته.
إدارة بايدن لن تضغط على إسرائيل كي لا تقوم بعملية كهذه إذا رفض حسن نصر الله العرض الذي أتى به آموس هوكشتاين إليه. هذا واضح. وهذا أكيد. وكل من يعتقد أن أميركا ستمنع إسرائيل من القضاء على "حزب الله" مهما كانت الكلفة عالية على لبنان إنما يجهل السياسة الأميركية.
إيران هي اللغز. إيران هي التي قد تكون مفتاح منع اندلاع حرب تقوم بها إسرائيل على "حزب الله" وعلى لبنان. والسبب الأول هو أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية المنشغلة بانتخاباتها وصراعاتها على السلطة وانقساماتها العميقة لا تريد أن تتورط في حرب مع إسرائيل الآن حتى ولو كانت من أجل إنقاذ "حزب الله" وحسن نصر الله.
السبب الآخر هو أن أولوية طهران الآن هي الولايات المتحدة الأميركية ولا تريد أن تساهم في خسارة جو بايدن الرئاسة لأن المنافع أكبر بكثير من أضرار خوض حرب مع إسرائيل حتى كرمى لعيني حسن نصر الله. طهران ستصبر وتعيد تنظيم صفوف "حزب الله"، وهناك بدائل جاهزة من حسن نصر الله إذا برزت الحاجة.
ثم إن إيران لا تريد أن تحارب إسرائيل، لا اليوم ولا في تاريخ الفرس واليهود، والمواجهة المباشرة الأخيرة كانت مسرحية ذات بداية ونهاية مدروستين وليست حرباً بين أعداء.
لبنان في عين العاصفة بقرار من حسن نصر الله. الرجل قد يقرر أن الغدر به يجب أن يدفعه إلى الهاوية باعتبار ذلك أفضل من التعايش مع فكرة الاستغناء عنه.
استدعاؤه العداوة مع قبرص والاتحاد الأوروبي يفيد بأنه يفقد أعصابه وبوصلته متوترة. وهذا ليس مؤشراً مطمئناً لا له ولا لقاعدته ولا للبنان.
لكن الرجل ليس انتحارياً وقد يرتئي أن الوقت حان لإعادة دراسة موقعه لبنانياً فيضمن لقاعدته الشعبية الخلاص من الدمار وهمجية إسرائيلية لا ترحم. هكذا يوفّق بين الحكمة التكتيكية والحكمة الاستراتيجية ويحبط مشاريع تستدعيه إلى السقوط في الهاوية.