عادت مجموعة "التلغراف" البريطانية إلى الواجهة مع إعلانها أخيراً عن خسائر تكبدتها العام الماضي بسبب قروض بقيمة 277.6 مليون جنيه إسترليني (نحو 353 مليون دولار) حصل عليها مالكوها، ومن المرجح ألا تستعيدها الشركة. وأوضحت شركة المحاسبة التي راجعت سجلات المجموعة المالية منذ 2004، حين استحوذ عليها الشقيقان التوأم المليارديران ديفيد وفريدريك باركلي، أن ثمة "مخالفات" ممكنة. ولم تستبعد حصول "مطالبات محتملة في المستقبل ضد الشركة" بسبب التعاملات غير النظامية.
ولم تكن المجموعة التي تصدر صحيفة "ديلي تلغراف" اليومية وشقيقتها الأسبوعية "صنداي تلغراف" علاوة على مجلة "سبيكتاتور"، بعيدة عن دائرة الضوء منذ عرضها للبيع في حزيران (يونيو) الماضي. في ذلك الوقت قرر بنك لويدز البريطاني وضع يده عليها لأن عائلة باركلي عجزت عن سداد قرض بقيمة 1.16 مليار جنيه إسترليني (نحو 1.468 مليار دولار). أفادت تقارير بأن مستثمرين من قماشة الأسترالي روبرت ميردوخ والبريطاني بول مارشال مالك تلفزيون "جي بي"، حاولوا شراءها. بيد أنها لا تزال معروضة.
في المقابل، ذكرت "التلغراف" أنها حققت قفزات على صعيد زيادة عدد قرائها في العام الماضي. وأشارت إلى تخطي عدد المشتركين المليون شخص حتى آب (أغسطس) الماضي. ولفتت إلى أن عائداتها ارتفعت من 254.2 مليون جنيه إسترليني في 2022 إلى 268 جنيه استرليني في العام التالي. وأثنت عائلة باركلي على نجاح المجموعة معتبرة أنها تطورت في عشرين سنة إلى "ماركة إعلامية رقمية وورقية ناجحة، يزيد عدد المشتركين فيها على مليون مشترك". وأعربت آنا جونز، وهي المديرة التنفيذية للمجموعة، أيضاً عن تقديرها لما حققته التلغراف.
غير أن الإعلان الأخير الذي جاء بناءً على تقرير فريق التدقيق المحاسبي، سيؤدي على الأغلب إلى تعديل السعر المطلوب للمجموعة ويعتقد أنه في حدود 600 مليون جنيه إسترليني (نحو 759 مليون دولار). ويُشار إلى أن جيف بيزوس مؤسس "أمازون" دفع 250 مليون دولار مقابل صحيفة "واشنطن بوست" في عام 2013. ولا يُستبعد أن يبدو السعر المطلوب الآن مبالغاً فيه أكثر من أي وقت مضى. فإشارات الاستفهام الجديدة والحديث عن مخالفات مفترضة من شأنهما أن يعززا الشكوك التي حامت طويلاً في الماضي حول صاحبيها المثيرين للجدل، لا سيما بخصوص التهرب الضريبي وتصرفات أخرى غير قانونية.
ولد صاحبا المجموعة الأصليان فريدريك وشقيقه ديفيد، في 1934 وتوفي الثاني في 2021. وقبل رحيله بنحو سنة اهتزت أركان شراكتهما الناجحة على مدى 80 عاماً وإمبراطوريتهما التي شملت استثمارات في الإعلام والنقل وصناعة الضيافة، أدارا دفتها بتكتم بالغ من جزيرتهما الخاصة في القنال الإنكليزي. فقد اكتشف فريدريك أن أولاد أخيه وأحفاده قاموا بالتنصت المنتظم على محادثاته هو وابنته أماندا التي تركزت على عملية بيع فندق "ريتز" الشهير في لندن إلى مستثمر قطري. ولم يكد يغادر المحاكم بعدما طويت صفحة القضية التي رفعها ضدهم حين توفي شقيقه، حتى عاد إليها ثانية بسبب دعوى أقامتها مطلقته ضده لفشله في دفع مستحقاتها بعد تسوية الطلاق وتبلغ 100 مليون جنيه إسترليني.
أيد الشقيقان رئيسة الوزراء السابقة مارغريت تاتشر تأييداً أعمى، بما في ذلك تشكيكها بسلامة العلاقة مع أوروبا. وتعاملا مع الصحيفة تعاملاً مختلفاً عن مالكها الكندي السابق كونراد بلاك الذي فرض تحيزه لمصلحة إسرائيل عليها فلُقبت بـ"ديلي تل أبيب". ويعتقد أنهما لم يتدخلا مباشرةً في خط "الديلي تلغراف" الذي كان مرسوماً سلفاً لجهة الولاء لأفكار حزب المحافظين التقليدية. وبقيت حتى وقت غير بعيد "جوهرة التاج" في الإعلام المحافظ التقليدي التي لم تستحِ يوماً من الكشف عن وجهه الأيديولوجي، ولكن بطرق مهنية استحقت عليها الثناء. وهي ظلت وفية لماضيها العريق، إذ تأسست في 1855. ورأس تحريرها في العقود القليلة الماضية بعض كبار الإعلاميين البريطانيين المعاصرين، مثل بيل دييدز، وهو وزير أسبق كُلف ملف الإعلام، أو ماكس هيستينغ المؤرخ الحربي المعروف والكاتب الصحافي المخضرم.
واتهمت بالتراجع على المستوى المهني في العقد الماضي بحسب مراقبين انتقدوها لتجاهلها معايير الحياد والدقة حين تعلق الأمر بالبريكست. فهي انحازت بوضوح إلى جانب دعاة الخروج من الاتحاد الأوروبي الشعبويين وفي طليعتهم بوريس جونسون، الذي بدأ حياته المهنية فيها وكتب لها بانتظام لسنوات ودأب على تسميتها "المعلم" حين كان في 10 داونينغ ستريت. وليس من النادر أن تقع فيها على قصة تفيض بالمبالغة والتزويق المتعمدين، وهو أمر لا يستغربه القارئ من صحف "تابلويد" الشعبية، إلا أنه غير مقبول من "التلغراف".
مثلاً، عنونت بالخط العريض قصة حول تجميد عضوية النائب المحافظ السابق لي أندرسون في حزبه السابق بطريقة اعتبرها ألاستير كامبل، مستشار الاتصالات والاستراتيجية لدى توني بلير رئيس الوزراء الأسبق، "مخجلة" ولا تليق بصحيفة من قماشة "الديلي تلغراف" لأنها أوحت بأن دائرته الانتخابية كلها مستاءة من العقوبة من دون أن تثبت فعلياً وجود موقف عام كهذا.
القلق على "التلغراف" من مزيد من الجنوح إلى اليمين انسجاماً مع الموضة السائدة في الأوساط البريطانية المحافظة، له ما يبرره. فتمدد موجة الشعوبية بفضل نايجل فاراج ورفاقه في السلاح من الممولين الذين يغدقون بسخاء على مشروعهم لتحول بريطانيا "قلعة" حصينة لليمين المحافظ "الوطني" على طريقة دونالد ترامب، ينذر بالخطر على الإعلام الرصين الذي مثلته يوماً "التلغراف". وإذا فاز فاراج بمقاعد برلمانية، خلافاً للمتوقع، وعاد ترامب إلى البيت الأبيض، كيف ستكون حال الإعلام البريطاني عموماً، والمحافظ خصوصاً؟