خلقت أزمة انتصار اليمين المتطرّف في الانتخابات الأوروبية، واقعاً سياسياً جديداً في فرنسا. حيث قلب قرار الرئيس إيمانويل ماكرون كل خطط الأحزاب السياسية نحو حملة انتخابية جديدة. لكن قرار الرئيس بالتوجّه نحو صناديق الاقتراع للبحث عن حلّ للأزمة، ربما لن يزيد الأزمة إلّا تعقيداً واتساعاً. وربما يمضي بالبلاد سريعاً نحو واقع أكثر تأزماً، يكون فيه الرئيس نفسه وشرعيته محلّ شكٍ، لا سيما أن الأرقام التي تقدّمها استطلاعات الرأي عن نوايا التصويت تشير بوضوح إلى عدم وجود منتصر قادرٍ على تشكيل حكومة وتحمّل مسؤولية الحكم خلال الثلاث سنوات المتبقية من عمر العهدة الرئاسية لماكرون.
تشير أغلب التوقعات – بحسب الاستطلاعات المنشورة خلال الأسبوع الماضي - إلى أن أياً من الائتلافات الرئيسية الثلاثة: أقصى اليمين وجبهة اليسار والمعسكر الرئاسي، غير قادر حتى الآن على الفوز بالأغلبية المطلقة. وسيأتي اليمين المتطرّف، في هذه المرحلة، في المقدمة من حيث عدد الأصوات، لكن أيضاً في المقاعد، من دون أن يصل إلى 289 مقعداً لازمة للأغلبية، فيما ستكون الجبهة الشعبية المتكونة من تحالف أحزاب اليسار في المركز الثاني، أما أحزاب المعسكر الرئاسي فستحلّ في المركز الثالث.
لذلك، نتحرّك بشكل واضح نحو مجلس "ثنائي القطب" من دون تشكيل محتمل للأغلبية المطلقة. في هذا السياق، إذا قام ماكرون بتعيين رئيس وزراء من حزب اليمين المتطرّف، فستكون قدرته على الحكم على المحكّ. في الواقع، يبدو من غير المرجح أن يتمّ التصويت على التدابير الرئيسية التي اقترحها اليمين المتطرّف في مجلس نواب يضمّ 300 أو 350 نائبًا معارضين لبرنامجه، خصوصاً تلك المتعلقة بالهجرة والإتحاد الأوروبي.
ومع وجود حكومة أقلية، يتعيّن على حزب الجبهة الوطنية أن يسعى إلى تشكيل تحالفات مع قوى سياسية أخرى، وهي مهمّة قد تكون معقّدة بسبب المعارضة الشديدة لليمين المتطرّف التي عبّرت عنها جميع القوى السياسية الأخرى تقريبًا. ولتعزيز موقعه، أبرم اليمين المتطرّف صفقة مع إريك سيوتي، زعيم حزب الجمهوريين من يمين الوسط، لدعم بعض المحافظين من ذوي التفكير المماثل، حتى لا يتنافسوا بعضهم ضدّ بعض في دوائر انتخابية محدّدة. لذلك، أعلن جوردان بارديلا – أمين عام الحزب - أنه لن يوافق على تولّي منصب رئيس الوزراء إلّا إذا حصل على الأغلبية المطلقة في الجمعية الوطنية، وبدأ بالفعل في تخفيف وعوده الانتخابية، وخصوصاً الاقتصادية منها.
في المقابل، لن يكون سهلاً على جبهة اليسار التوصل إلى اتفاق حكم مع معسكر الرئيس، بعد أن أسّست خطابها بالضدّ من سياساته الاقتصادية والاجتماعية، فهي فإن فعلت ذلك ستجازف بجزء كبير من قاعدتها الشعبية. لكن هذا السيناريو سيبقى قائماً، لا سيما في ظل هدف الطرفين منع اليمين المتطرّف من الوصول إلى السلطة، ومع وجود أغلبية للجمهوريين في مجلس الشيوخ ستجعل مهمّة تمرير القوانين والمصادقة عليه يسيرةً.
مؤكّدٌ أن الجبهة الشعبية الجديدة تضرب على وتر حساس لدى الناخبين، يتعلق أساساً بالوضع الاقتصادي. وتشير التوقعات الحالية إلى فوز التحالف اليساري بما يتراوح بين 190 و235 مقعداً. ولا يزال هذا الرقم بعيدًا بعض الشيء عن المقاعد الـ 289 اللازمة لتحقيق الأغلبية. لكن هذا السيناريو يبقى رهناً بالأرقام التي يمكن أن يحققها معسكر الرئيس، والذي يعاني تفككاً واضحاً، وتسرّباً للقاعدة الانتخابية نحو أقصى اليمين وأقصى اليسار. ومهما حدث، فمحتملٌ تماماً ألّا تكون البلاد مساء السابع من تموز (يوليو) المقبل أكثر قابلية للحكم مما كانت عليه في مساء التاسع من حزيران (يونيو)، عندما قرّر ماكرون حلّ البرلمان لتجاوز أزمة الحكم المستعصية.
إن المقامرة السياسية الخطيرة التي أقدم عليها الرئيس الفرنسي بحلّ البرلمان ربما تتحول إلى كابوس حقيقي بالنسبة له شخصياً، حيث ربما يكون وجود اليمين المتطرّف في السلطة، ضمن حكومة تعايش، يؤدي إلى تضارب جذري في السياسات بين ماكرون ومارين لوبن، إلى الدرجة التي يتحول فيها الرئيس إلى عاجزٍ عن المناورة، وربما يجد نفسه مضطراً للاستقالة في نهاية الأمر، لأنه لم يعد يملك سلاح حلّ البرلمان، على الرغم من أن زعيمة اليمين المتطرّف مارين لوبّن قالت إنها "لا تريد الفوضى المؤسسية، ولن تسعى إلى استقالة الرئيس ماكرون"، إذا فاز حزبها في الانتخابات.
في نظام سياسي يتمحور حول الرئيس، فإن مسألة مسؤولية ماكرون في الأزمة الحالية سوف تُطرح حتماً إذا جاءت مقامرته الانتخابية بنتائج عكسية، أو تكبّد معسكره خسارةً كبيرةً. ففي عام 1969، بعد خسارة الاستفتاء، قدّم الجنرال شارل ديغول، مؤسس الجمهورية الخامسة استقالته، معتبراً نتائج التصويت بمثابة فشل شخصي له. لذلك، فإن سيناريو استقالة ماكرون لا يبدو بعيداً جداً، لا سيما أن الرجل فَقَد منذ عام 2022 الكثير من شعبيته، وأصبح عاجزاً عن تقديم أية حلول. كما أنه – على المستوى الشخصي – عوّد الفرنسيين على اتخاذ قرارات مفاجئة وغير متوقعة. وربما تعيد له الاستقالة قسطاً من شعبيته المفقودة، خصوصاً أنه سيكون غير قادرٍ على الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2027.