شيعة العراق في حيرة من أمرهم، بعدما أصبحت مدنهم ملاذاً آمناً لمختلف التيارات المتطرفة التي تستعمل الثوابت التي أقاموا على أساسها خصوصيتهم المذهبية، لكن بطريقة متطرفة يمكن أن يؤدي تكريسها إلى إنفصالهم عن المبادئ والأصول الدينية التي تبقيهم مسلمين، وإن اختلفوا في تأويل التاريخ السياسي للإسلام. وإذا ما كانت طائفيتهم عبر مسارها التاريخي صناعة سياسية ارتدت قناعاً فقهياً، فإن ظهور جماعات متطرفة تعمل على الإعلان عن انفصالهم عن منابع الفكر الإسلامي هو بالتأكيد صناعة استخبارية تهدف إلى قطع صلتهم بتاريخهم الوطني وقبله، وهو الأهم، مظهرياً بانتمائهم إلى الدين الذي يجمعهم بالعراقيين الآخرين. وليس مفاجئاً أن كل الأفكار التي تشيعها تلك الجماعات هي أفكار مستوردة من إيران، كانت مكشوفة بالنسبة إلى شيعة العراق، وهي أفكار ليست جديدة وسبق للعراقيين أن سخروا منها، غير أن الوضع السياسي في العراق الذي يتسم بالفوضى صار يسمح بانتشارها بين الشباب الذين تشكل بطالتهم قنبلة يمكن أن تنفجر في أي لحظة.
ذلك يفسر صمت النظام السياسي على تلك الظواهر. أما إذا اتخذنا من طائفية النظام مقياساً، فلا نستبعد أن تكون أطراف فيه قد شجعت على ظهور تلك الجماعات وتبنت أفكارها نهجاً عقائدياً. عملياً فإن تلك الأطراف هي صناعة إيرانية مئة في المئة، لا لأنها تعمل تحت إمرة الحرس الثوري الإيراني، وهو أمر مؤكد واقعياً، بل لأنها تؤمن مبدئياً بولاية الفقيه التي لم يكن شيعة العراق في سالف أيامهم يؤمنون بها، وكما أتوقع فإن الجزء الأكبر منهم لا يزال يستخف بذلك المبدأ.
ضحايا الحكايات الخرافية
سيكون صادماً لو عرفنا أن جملة تتردد في أذان المساجد (الشيعية) هي "أشهد أن علياً ولي الله"، قد تم استبدال شعار يدخل في إطار الكفر هو "علي هو الله" بها. لطالما أكد الفقهاء الشيعة أن "علياً ولي الله" يمكن الاستغناء عنها وليست إضافتها إلى الشهادتين واجبة. ولكن التأويل الصفوي لآيات في القرآن كان قد أضفى على شخصية الخليفة علي بن أبي طالب هالات تخرج بها من صفة النبي الذي أخطأته الرسالة إلى صفة الألوهة. ذلك ما كنت شخصياً أسمعه وأنا طفل وما تأكدت من حقيقة وجوده وأنا شاب. فحين يكون كتاب "الكافي" لمؤلفه الكليني، وهو فقيه فارسي عاش بين القرنين الثالث والرابع الهجريين، مرجعاً أساسياً في فهم الدين، تحل الحكايات الخرافية محل الأصول الدينية المسنودة بالنص القرآني. ومنذ أن وجد حزب "الدعوة الإسلامية"، وهو حزب إيراني، موقع قدم له في العراق قُدر له أن يشيع الكثير من أفكار التشيع الصوفي، وهو تشيع فارسي بين شيعة العراق.
كانت هناك فكرة أن يكون سلمان الفارسي هو مصدر الوحي للنبي محمد، غير أنها استُبعدت موقتاً. لكن العقدة كانت ولا تزال تحوم حول عروبة النبي التي لا يزال الفرس غير قادرين على التعامل معها بإيجابية، وفي الوقت نفسه لا يجرؤون على الإفصاح عنها إلا بطريقة مواربة. في السنوات الأولى من الاحتلال الأميركي للعراق عكف أئمة مساجد شيعة على التركيز في خطبهم على ضم زرادشت إلى سلسلة الأنبياء، وعلى اعتبار دينه واحداً من الأديان التوحيدية.
تبشير ومخدرات ورؤية عدميّة
في تفاصيل ما جرى في عدد من مدن جنوب العراق التي انتشرت فيها الجماعات المتطرفة، أن تلك الجماعات أعادت العمل بمبدأ "القربان" الذي كان معمولاً به في الحضارات المصرية القديمة. ويقوم ذلك المبدأ على عملية قرعة يتم من خلالها اختيار واحد من أعضائها للتضحية به قرباناً إلى الله. ولم تنتبه القوات الأمنية لتلك الظاهرة إلا بعد انتحار عدد من المراهقين الذين اقتنعوا بأن ذلك الإجراء سيفتح أمامهم أبواب الجنة. أليس ذلك مطابقاً لما كان يفعله حسن الصباح الذي عاش في القرن الخامس الهجري في قلعة آلموت في إيران يوم قاد فرقة الحشاشين؟ تلك مقاربة تفتح أمامنا أبواب الجنة الوهمية التي أقامتها تلك الجماعات المتطرفة عن طريق المخدرات. منذ سنوات والمخدرات تفتك بعقول المراهقين والشباب العراقيين. وكما أرى فإن جماعة مثل "العلاهية"، وهي الواجهة لظاهرة القربان، قد استعملت المخدرات للترويج لأفكارها. سيدخل الانتحار في إطار الهلوسة التي تتماهى مع طقوس حسينية كان العراقيون قد اعتادوا عليها وهم يشهدون المواكب المبتهجة بشبابها الذين يضربون ظهورهم بالسلاسل الحديدة ورؤوسهم بالسكاكين. كانت تلك عمليات انتحار جماعية يغلب عليها طابع العبث. ولكن مع انتشار المخدرات صار الذهاب إلى الموت أكثر يسراً ومن غير شهود. ولكن موضوع القتل رغم بشاعته ينبغي أن لا ينسينا المسألة التبشيرية التي ظهرت من أجلها تلك الجماعات. تلك مسألة تدخل في عملية تمزيق النسيج الاجتماعي العراقي، وبالذات في المدن ذات الأغلبية الشيعية التي تعاني الإهمال وغياب الخدمات.
مسلوبو الإرادة يفتكون بالمجتمع
"هل هو استثمار في الجهل أم هي محاولة لجس نبض الشارع؟" يتساءل المرء وهو يشهد صعود حالات التطرف الطائفي في ظل تباطؤ حكومي في اتخاذ إجراءات رادعة يمتزج من خلالها الإهمال الرسمي بجهل العامة التي انتشرت الأمية بين صفوفها. قد يُقال إنها مجرد ظواهر فردية لا يمكن القياس عليها. وهو قول لا يأخذ في تقديراته فداحة الخطر الذي تشكله تلك الظواهر من جهة ما تحمله من أفكار يمكن أن تتسلل بتلقائية إلى العقل الجمعي الذي بات بمثابة حاضنة تستقبل من غير تمحيص أو رقابة كل ما يُلقى فيها من أفكار شاذة وغريبة عن المجتمع العراقي. وإذا ما وضعنا في حسابنا المسافة ما بين وصول جماعة "العلاهية" إلى مرحلة تنفيذ عمليات قتل عدد من أفرادها، والإجراء الحكومي الذي جاء متأخراً، فلا بد من أن نتوقع أن أفكار تلك الجماعة قد وجدت لها تربة خصبة تنمو فيها لتمهد لظهور جيل طائفي مسلوب الإرادة سيفتك بالمجتمع مثلما فتكت به المخدرات.