عندما حذر المبعوث الفرنسي جان - إيف لودريان اللبنانيين من أنهم سيغرقون كما لو كانوا في سفينة "التايتانيك"، لم يكن وزير الخارجية السابق يتوقع أن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون سيغرق فرنسا في فوضى سياسية صادمة مع احتمال وصول حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبن الى الحكم للمرة الأولى في تاريخ فرنسا.
وإذا صدقت استطلاعات الرأي، فإن "التجمع الوطني" يقترب من الحصول على أغلبية مطلقة في الجمعية الوطنية الجديدة بعد الدورة الثانية في 7 تموز (يوليو)، باعتبار ان النتائج لن تحسم بشكل كامل في الدورة الأولى الأحد المقبل.
رئيس حزب لوبن الشاب جوردان بارديلا (28 سنة) صانع هذا النجاح قد يتبوأ رئاسة حكومة تعايش مع الرئيس ماكرون اذا صدقت هذه الاستطلاعات وحصل على أغلبية مطلقة، أي 289 نائباً وإلّا لن يترأس الحكومة، كما قال. وحتى منتصف الأسبوع الماضي كانت استطلاعات الرأي تشير إلى حصول "التجمع الوطني" على 36 في المئة من الأصوات و"الجبهة الشعبية الجديدة" أي تحالف أحزاب اليسار على 27 في المئة منها وحزب ماكرون "النهضة" وحلفائه على 20 في المئة.
حلفاء ماكرون يحظون بشعبية أكبر من شعبيته، منهم رئيس الحكومة السابق إدوار فيليب مؤسس حزب "أفق" Horizon الذي أعلن ابتعاده عنه معتبراً أن الرئيس قتل أغلبيته الحاكمة. رئيس الحكومة الحالي غبريال آتال الذي فوجئ بإعلان الرئيس حل البرلمان بعد تقدم اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية أشار الى التوجه نفسه، أي الابتعاد عن ماكرون، بالقول إن ماكرون اختاره رئيساً للحكومة، لكنه الآن يعمل على أن يختاره الشعب الفرنسي رئيساً للحكومة. آتال يقود حملة حزب "النهضة" وهو مدرك لتراجع صورة الرئيس في البلد، لذا يخوض معركة انتخابية مبعداً صورة ماكرون الذي أوصله الى رئاسة الحكومة.
احتمال وصول حزب لوبن الى الحكم دفع ناخبي اليسار المتعددين إلى تحالف مصطنع، إذ إن الانقسام العقائدي والسياسي عميق في ما بينهم، من "فرنسا الأبية" الحزب الذي يترأسه جان لوك ميلانشون وهو الأغلبية في اليسار، واشتراكيين ديموقراطيين يتزعمهم رافاييل غلوكسمان (رفيق حياة ليا غسان سلامة) الذي أحرز المرتبة الثالثة في انتخابات البرلمان الأوروبي وهو اشتراكي من الوسط، وأمين عام الحزب الاشتراكي أوليفييه فور، ورئيس الجمهورية السابق فرانسوا هولاند الذي يطمح الى مقعد نيابي والذي تنقل عنه أوساط مقربة منه طموحاً مؤكداً الى خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2027.
تحالف اليسار قد يحل ثانياً في الانتخابات التشريعية، ولو أن معظم الزعماء فيه يكرهون بعضهم بعضاً ويتوحدون في رفض تبني برنامج ميلانشون، الذي يخيف أوساط الاقتصاد والمال في فرنسا لأنه يركز على زيادة الضرائب على الأغنياء ودعم الطبقات العاملة، أي المزيد من الصرف من مال الدولة التي لديها حالياً أعلى مستوى مديونية في أوروبا.
لكن تحالف اليسار كان، بحسب غلوكسمان، تحت ضغط تخوف فوز تجمع لوبن، وقال إنه مشروط بعدم تولي ميلانشون رئاسة الحكومة اذا فازت "الجبهة الشعبية"، في حين نفى ميلانشون في حديث تلفزيوني ما قاله غلوكسمان وأعلن أنه مستعد ليكون رئيس حكومة.
أما حزب ماكرون "النهضة" وحلفاؤه فسيكونون أكبر الخاسرين لأن شعبية الرئيس تراجعت بشكل كبير منذ أعلن حل البرلمان. وهو يراهن على لملمة أصوات من المعتدلين في اليمين الذين لا يريدون الالتحاق بقرار رئيس الجمهوريين ايريك سيوتي الذي تحالف مع بارديلا في "التجمع الوطني"، وأيضاً من اليسار الوسطي من جماعة غلوكسمان الذين لا يريدون التحالف مع ميلانشون وهم كثر. لكن التوقعات تشير إلى تراجع كبير لوضع ماكرون، حتى أن عدداً من المعلقين يرون أنه إذا لم يحصل أي من الأحزاب على الأغلبية المطلقة ستكون هناك فوضى في إدارة الأمور، ما يعطل كلياً بقية عهد ماكرون ويجبره على الاستقالة وهو غير راغب فيها، إذ أكد أنه سيبقى إلى نهاية عهده في 2027.
وتشير استطلاعات الرأي إلى أن تعبئة الناخبين في هذه الانتخابات التشريعية ستكون كثيفة بشكل استثنائي وشبيهة بنسبة المشاركة في 1997 عندما فاز جاك شيراك بوجه والد مارين لوبن مؤسس اليمين المتطرف جان ماري لوبن.
وكذلك تلفت إلى أن اهتمام الفرنسيين الأساسي هو تحسين قوتهم الشرائية في ظل ارتفاع أسعار كل شيء والتضخم. لذا تركز برامج المرشحين المختلفة على رفع مستوى الحد الأدنى للرواتب وتخفيض الضرائب وإزالة ضريبة القيمة المضافة.
تبلغ تكلفة برنامج ماكرون وحلفائه مليارات اليورو، وتكلفة برنامج "التجمع الوطني" عشرات المليارات، فيما تكلفة خطة "الجبهة الشعبية الجديدة" مئات المليارات، بحسب المعلق الاقتصادي الفرنسي فرانسوا لونغلي الذي يقدر المديونية الإضافية لفرنسا منذ انتخاب ماكرون في 2017 بـ 900 مليار يورو المبررة بدعم القوة الشرائية وليس بالاستثمار. وعليه فإن أي حكم ينتج من هذه الانتخابات سيكون أمام صعوبة بالغة لأن وضع فرنسا المالي سيئ بحسب لونغلي. أما إذا كان الحكم للبلبلة والفوضى فهذا يعني أن موقع فرنسا في الاتحاد الأوروبي سيتراجع بشكل كبير، لاسيما مع المزيد من الضغط من الحليف الأميركي في مختلف المجالات.
وفي هذه الظروف فرنسا على عتبة تنظيم ألعاب أولمبية عالمية والقطاعات الرسمية المتابعة لهذه الألعاب معنية بضمان أمنها، فيما وزير الداخلية جيرالد دارمانا قد يصبح مستقيلاً قبل انطلاقها يوم 26 تموز (يوليو)، فمن يتولى الأمن بهذه السرعة وكيف يضمن ماكرون سير هذه الألعاب بشكل طبيعي ومن يشكل الحكومة وكيف يتعامل معها الرئيس؟ كلها أسئلة تفرض نفسها في ظل هذه الانتخابات. وماذا عن دور لودريان واهتمام ماكرون بلبنان، علماً أنه يبقى المسؤول الأول عن العلاقات الدولية، لكنه قد يدخل في مواجهة داخلية إذا فرض حزب التجمع على الرئيس وزير خارجية لا يتمناه أو يقرر انتهاج سياسة مخالفة لرغبة الرئيس.
لكن بارديلا أراد طمأنة الناس والتخفيف من القلق إزاء التعايش وبدأ يطلق عموميات من مثل أنه سيشكل حكومة وحدة وطنية من أقطاب مختلفين من دون الخوض في تفاصيل خطته، مع الحرص على عدم تخويف الناس، لكنه كما لوبن لا يملك أي خبرة في الحكم، إضافة إلى أنه صغير في السن.