في خضم التحولات العالمية خرجت العلاقات التونسية - الأميركية من دائرة الضوء وانتابها نوع من الفتور منذ فشل تجربة "الانتقال الديموقراطي" في تونس وتبخر آمال واشنطن التي كانت معلقة على "الربيع العربي".
كما تأثرت العلاقات بعوامل أخرى، منها ما يتعلق بالتطورات السياسية في تونس، ومنها ما يتعلق بالأحداث في المنطقة وآخرها الحرب في غزة.
وفيما تغيرت نظرة النخب السياسية والإعلامية الأميركية تجاه تونس، تطورت كذلك مواقف التونسيين حيال أميركا، وخير مرآة لذلك نتائج استطلاعات الرأي، ومن آخرها الاستطلاع الذي نشر نتائجه هذا الشهر مركز "بيو" الأميركي للبحوث.
تشكل استطلاعات الرأي عموماً ما يشبه الرادار الذي يحدد لأصحاب القرار مواقف الرأي العام في بلادهم من أهم القضايا. كما يرسم لهم ملامح صورة بلادهم في الخارج.
شكلت استطلاعات الرأي دوماً للدولة مرآة مزدوجة تعكس مواقف مواطنيها وكذلك انطباعات الآخرين عنها.
أبدت الشركات الأجنبية المختصة اهتماماً خاصاً بتونس منذ 2011 باعتبارها "محراراً" للتوجهات العامة في المنطقة العربية. ذلك صحيح إلى حد ما، لكن الرأي العام التونسي يتميز في كثير من الحالات بخصوصيات تجعله مختلفاً عن غيره في المنطقة.
في هذا الإطار كانت تونس هي الدولة العربية الوحيدة التي شملها استطلاع مؤسسة "بيو". أظهر الاستطلاع أكثر من أي شيء آخر تدهوراً شديداً لنظرة التونسيين إلى الولايات المتحدة، كبلاد وكقيادة سياسية على حد سواء. بل إن التونسيين فاقوا في سلبيتهم تجاه أميركا البلدان الأربعة والثلاثين التي شملها الاستطلاع.
أظهر الاستطلاع صورة سلبية للولايات المتحدة لدى التونسيين بنسبة 87 في المئة (مقابل 9 في المئة فقط ينظرون إليها إيجاباً). من الواضح أن الصورة الأميركية في تونس تدهورت بشدة بعدما طغى السياسي على كل ملامح هذه الصورة. وكانت المواقف الإيجابية للرأي العام التونسي من أميركا قبل خمس سنوات تشمل 33 في المئة من التونسيين.
يتضمن الانطباع السلبي للتونسيين من أميركا ما يشبه الإجماع على رفض سياسات واشنطن الحالية. حوالى تسعين في المئة من الرأي العام في تونس لا يثقون بقدرة الرئيس جو بايدن على اتخاذ القرارات الصائبة في السياسة الخارجية. واللافت أن التونسيين — بعكس المستطلعين في كل البلدان الأخرى تقريباً — يثقون أكثر بالمرشح الجمهوري دونالد ترامب، وإن كانت هذه الثقة ذاتها متدنية جداً. بمعنى أن الأمر يتعلق بالنسبة إليهم بخيارين سيئين يمثل ترامب أفضلهما.
تميزت مواقف التونسيين دوماً بعدم الارتياح إلى السياسات الأميركية في الشرق الأوسط، وذلك على خلفية ارتباطهم العاطفي الوثيق بالقضايا العربية. وهو ارتباط تنامى على مدى العقود وبدت متانته بوضوح شديد خلال الأزمات وآخرها الحرب في غزة.
أظهرت أرقام الاستطلاع أن 93 في المئة من المستجوبين في تونس يعارضون مواقف بايدن من الحرب في القطاع.
لا يقف انعدام الثقة لدى التونسيين بالسياسات الأميركية عند قضايا الشرق الأوسط. إذ هم يشككون - بأغلبيات كبيرة - في صواب السياسات الأميركية في عديد المسائل الدولية الأخرى، ومن بينها الحرب الأوكرانية - الروسية والعلاقة مع الصين وحتى التغير المناخي ومشكلات الاقتصاد العالمي.
وقد يكون الموقف السلبي من الإدارة الأميركية هو سبب شعورهم بثقة أكبر بالسياسة الخارجية للرئيسين الصيني والروسي، كما تظهر ذلك أرقام الاستطلاع.
وتنعكس الصورة السلبية تجاه الولايات المتحدة وسياساتها على موقف التونسيين من "الديموقراطية الأميركية"، إذ إن 8 في المئة فقط من الرأي العام التونسي يرون في الممارسة الديموقراطية في أميركا "مثالاً جيداً يمكن أن يُحتذى". وفي المقابل، يرى 39 في المئة منهم أن التجربة الأميركية شكلت في الماضي مقاربة نموذجية بالنسبة إلى بلدان العالم، ولكن ذلك لم يعد صحيحاً اليوم، فيما أعرب 45 في المئة منهم عن اعتقادهم بأن النموذج الأميركي للديموقراطية لم يكن أبداً نموذجاً يجدر أن يقتدي به الآخرون.
للأرقام تداعياتها. وهناك دائماً دروس يمكن أن يستخلصها الساسة والخبراء. ولا يمكن لأصحاب القرار أن يتجاهلوها، بخاصة إذا كان الأمر يتعلق بقضايا تحظى بالإجماع.
في تونس على وجه التحديد لا يمكن للسياسي اليوم أن يبتعد كثيراً عن إجماع التونسيين في رفضهم السياسات الأميركية في المنطقة، حتى إن هو شاء ذلك.
ولا يمكن لواشنطن أن تسهو عن أن انتقاداتها لتعثر المسار الديموقراطي في تونس تفقد بالضرورة الكثير من صداها لدى التونسيين، في غياب أي مصداقية للتجربة الديموقراطية الأميركية نفسها لديهم.
كما أن مواقف التونسيين المنفتحة انفتاحاً متزايداً على السياسات الصينية والروسية - وإن كانت لا تروق لواشنطن - من شأنها أن تشجع الدبلوماسية التونسية على المضي قدماً في سعيها نحو تنويع شراكات البلاد وتحالفاتها.
من المفروض أن تثير نتائج استطلاع "بيو" وما أظهرته من تآكل سريع وحاد للصورة الأميركية في تونس انشغال واشنطن. لكن من غير المحتمل أن تكون الصورة الأميركية ضمن أولويات الإدارة الأميركية في الوقت الحالي.
وتحسين تلك الصورة سوف يحتاج قبل كل شيء إلى مراجعات أو توضيحات أكثر إقناعاً للسياسات الأميركية في الشرق الأوسط.
لكن الولايات المتحدة تبدو غير مهتمة في الوقت الراهن بغير الانتخابات الرئاسية المقبلة وما يضمن بقاء بايدن في البيت الأبيض، ما يعني أن دار لقمان ستبقى على حالها إن لم تزدد انهياراتها.