تصاعدَ مؤخراً الجدل في العراق بخصوص معنى الوطنية في سياق "ثورة العشرين" بمناسبة ذكراها السنوية الرابعة بعد المئة. في عصر يوم السبت، الثلاثين من حزيران (يونيو) 1920، هَجم رجال مسلحون عشائريون في مدينة الرميثة في جنوب العراق، لتحرير شيخ عشيرة، شعلان أبو الجون، الذي اعتقله البريطانيون في اليوم السابق، بعد مشادة كلامية له مع ضابط بريطاني اختلطت فيها السياسة بالإدارة وتطبيق القانون، وذلك على خلفية عدم سداد أبو الجون قرضاً زراعياً حصل عليه من السلطات البريطانية الحاكمة. قاد اطلاقُ سراح الرجل بالقوة، ومقتل وجرح بعض أفراد الحامية البريطانية وتخريب أفراد العشيرة سكة القطار الذي يجلب المعدات والقوات البريطانية إلى اندلاع ما أصبح يُطلق عليه عراقياً "ثورة العشرين"، وهي خليط معقد من مواجهات مسلحة، معظمها في مناطق ريفية وسط العراق، الفرات الأوسط، بين القوات البريطانية والعشائر المسلحة الغاضبة من سوء المعاملة والتشدد البريطانيين، واحتجاجات سياسية في المدن مناهضة للبريطانيين، بغداد خصوصاً، استمرت نحو ستة أشهر. ساهمت "ثورة العشرين" في آخر المطاف في تسريع تشكيل أول حكومة عراقية في إطار دولة أصبح اسمها العراق، بعد نحو ثمانية قرون من أنواع السيطرة الأجنبية المختلفة منذ انهيار الخلافة العباسية في 1258.
تَعلقَ الجدل الذي اتخذ طابعاً طائفياً حاداً، وقليل الصلة بالوقائع التاريخية الموثقة، بتحديد "الوطنيين" من المشاركين في الثورة، بإزاء "المتعاونين" مع البريطانيين من "المنتفعين" الذين أضيفوا لها قسراً في ما بعد. الإشارة هنا هي للشيخ ضاري المحمود، أحد شيوخ قبيلة زوبع، المنتشرة غرب العراق، الذي فَرَّ، بعد أسابيع من اندلاع الثورة الى مناطق الفرات الأوسط إثر قتله ضابطاً انكليزياً متعجرفاً أهانه. بدا أن للحملة هدفاً محدداً يتعلق باستثارة مشاعر طائفية عبر "تأكيد" حقائق التاريخ في وقت الاحتفاء السنوي بالمناسبة في اطار يقوم على المقارنة المذهبية بخصوص السلوك الوطني مقابل السلوك "المشبوه". إلى حد كبير، ظهرت هذه الحملة مُنظمةً ومعداً لها سلفاً ليندرج فيها كثيرون آخرون عبر الترويج لقصيدة شعبية ناقدة للمحمود تتهمه أنه كان عميلاً بريطانياً لأنه كان يحمي الطريق الرابط بين بغداد والرمادي لصالح البريطانيين، وأن قتله الضابط البريطاني لم يكن عملاً مرتبطاً بالثورة.
لا يرتبط هذا الجدل بالتاريخ أو محاولة فهم وقائعه في سياق حدوثها وإنما بتسجيل نقاط طائفية عبر المحاججة الأوسع، والمغلوطة تأريخياً، أن الشيعة عموماً كانوا هم الوطنيون الذي يعانون ويضحون من أجل البلد، فيما السنّة هم المستفيدون من مثل هذه التضحيات. تُوظّف، في هذا السياق أيضاً، فتوى الجهاد الكفائي التي أطلقها المرجع الشيعي السيد علي السيستاني في حزيران 2014، التي تصادف ذكراها السنوية في الشهر نفسه الذي اندلعت فيه "ثورة العشرين"، لتعزيز هذه السردية الطائفية عبرَ الإصرار الذي تخالفة حقائق ووقائع كثيرة، على أن الشيعة قاتلوا "داعش" "السنية" وحرروا البلاد منها، كما قاتل أجدادهم في "ثورة العشرين" ضد البريطانيين الذين نالوا دعم السنّة وحظوتهم عبر تسليمهم حكم العراق بعد انتهائها.
تهدف هذه السردية الى تشييع الحيز العام العراقي، تاريخاً وسياسةً ورموزاً ومشاعرَ، خصوصاً بعد انفراد الإطار التنسيقي بالسلطة مدعوماً بالفصائل المسلحة، وهما الجهتان اللتان تزدهر بينهما وبين جمهورهما هذه السردية، ويُعلَن عنها أحياناً صراحةً وأحياناً أخرى تلميحاً. يندرج، أيضاً، في هذه السردية طيفٌ شيعي واسع الى حد ما، شعبي ومتعلم، بينه مشتغلون متخصصون في مجالات التاريخ والعلوم الاجتماعية، تنتصر، لدى كثيرين منهم، الحماسةُ المذهبية والاندفاعات الشعبوية على جدية المعرفة ورصانة التفكير.
لا تصمد هذه السردية أمام أي تفحص تأريخي دقيق. بعيداً عن الأسباب التي قادت لـ"ثورة العشرين" التي تتضمن مصالح اقتصادية وشخصية ونزوع استقلالي ومطامح وطنية وسياسية عامة، كان تقريباً جميع شيوخ الفرات الأوسط، من ملاك الأراضي، الذين نظموا الثورة من المتعاونين مع البريطانيين قبل الثورة وبعدها وتلقوا أموالاً وامتيازات منهم، فضلاً عن تأدية كثيرين منهم وظائف شبيهة بالتي كان يؤديها المحمود. بخلاف المحمود الذي لم يشمله العفو البريطاني الذي أصدره في تشرين الأول (أكتوبر) 1920 المندوبُ السامي البريطاني بيرسي كوكس بعد الهزيمة العسكرية للثورة للذين اشتركوا فيها، بسبب اشتراكه في قتل ضابط بريطاني، استفاد شيوخ الفرات الأوسط المشاركون في الثورة من هذا العفو، وحصلوا، في سياقات مختلفة، على فوائد مالية واقتصادية ومؤسساتية من جراء تحالفهم مع النظام الملكي والبريطانيين الذين يرعونه. حتى الشيخ شعلان أبو الجون "مفجر الثورة" أصبح تالياً عضواً في البرلمان الملكي في عام 1930، وكذلك ابنه في عام 1943 بعد وفاة أبو الجون في 1941. ينطبق الأمر نفسه على زعماء الثورة الآخرين، الأكثر غنى وتأثيراً من أبو الجون بكثير، مثل محسن أبو طبيخ ونور الياسري وعبد الواحد سكر، الذين أصبحوا فاعلين في تشكيل الحكومات والأحزاب والدخول في البرلمانات المتعاقبة فيما كانت ثروات معظمهم تزداد، بوصفهم شيوخاً اقطاعيين متنفذين وأحد الأعمدة الأساسية القليلة للنظام الملكي.
بخلاف شيوخ الفرات الأوسط الذين اتسعت حظوظهم الاقتصادية والسياسية، قضى الشيخ ضاري المحمود السنوات السبع والنصف الأخيرة من حياته طريداً ومتخفياً، بوصفه مجرماً مطلوباً من الحكومتين العراقية والبريطانية، إلى أن خدعه سائق تاكسي في الموصل في تشرين الثاني (نوفمبر) 1927 وهو في طريقه لمدينة حلب السورية، وسلمه لمركز شرطة في سنجار، طمعاً بالجائزة المالية التي رصدها البريطانيون لمن يساعدهم في إلقاء القبض عليه. نُقل الرجل الى بغداد وتطوع محامون للدفاع عنه بدوافع اعتبروها وطنية، وسط اهتمام شعبي بمحاكمته. صدر حكم الإعدام عليه في البداية ليُخفَّف إلى سجن مؤبد بسرعة، لكنه توفي بسرعة في مطلع شباط (فبراير) 1928 بسبب مرض الزحار الذي اشتد عليه في أثناء أيام المحاكمة، وأنكرَ الطبيب البريطاني الذي فحصه وجوده لدى المحمود. أثار موته غضباً شعبياً وتعاطفاً كبيراً في الصحف المعارضة على نحو سبب إحراجاً شديداً لحكومة عبد المحسن السعدون وقتها. اقتحم بغداديون غاضبون المستشفى الملكي الذي وضعت الجثة فيه وأخرجوها بالقوة في موكب أصبح ضخماً وتوجه نحو مقبرة الشيخ معروف في بغداد لدفن الرجل هناك وسط شعارات معادية للحكومة والبريطانيين. في أثناء ذلك الموكب، أطلقت "الهوسة" المشهورة التي أصبحت جزءاً من التراث الوطني العراقي "هَزّ لندن ضاري وبچاها"، احتفاءً بقتله الضابط البريطاني في وقت، خصوصاً من العشرينات فصعوداً، كانت الوطنية العراقية تُقاس بمقدار مناهضة البريطانيين ورفض وجودهم المُهيمن في البلد.
لم يحتفِ البغداديون بالمحمود ويحملوا جثته في 1928 بوصفه سنياً أو ممثلاً للسنّة، كما لم يفرح العراقيون عموماً، والفلاحون منهم خصوصاً وأغلبيتهم شيعة فقراء، بنهاية الظلم الإقطاعي في 1958 لأن أعمدته الأهم في وسط وجنوب العراق هم شيعة، ولم ينظروا لهم على هذا الأساس. كان عموم العراقيين حينها، كمجتمع في بدايات ووسط تشكله السياسي، يُقيِّمون الأفعال والأدوار، كلٌّ من موقعه السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي ينتمي له، ويحكمون على الأشخاص على أساسها.
على إثر صعود الإسلام السياسي الشيعي بعد 2003 وسيطرته التالية على الحكم والسلطة (وفي ضوء رغبته بالهيمنة على المجتمع أيضاً) ازدهر التقييم على أساس الانتماء المذهبي والعرقي، لتُعاد صياغة الأفعال والأدوار وحتى التاريخ كي تناسب كلها هذا الانتماء الذي لم يختره المرء، وإنما ولد فيه. هذه واحدة من أكبر لعنات الطائفية السياسية التي لا تزال مضارها الكثيرة تقوض معنى الدولة وقيمة المواطنة، والمساواة الإنسانية والقانونية التي يقوم عليها الاثنان.