يستعد الطالب الجامعي كارلوس (20 عاماً) للتصويت للمرة الأولى في حياته. يشغله التغيير المناخي والعدالة الاجتماعية، ويقول: "سئمت من السياسيين الذين يتجاهلون القضايا التي تؤثر في مستقبلي"، "أنا لا أهتم بالخطوط الحزبية. أنا أهتم بالعمل".
ويمكن اعتبار موقف كارلوس تعبيراً بليغاً عن المتأرجحين.
تقليدياً، كانت ثمة موضوعتان رئيسيتان تقسمان الجمهور الأميركي بشكل حاد. فعلى مدى الأجيال الخمسة الماضية انقسم الجمهور الأميركي بين من لا يرغبون في أي دور للدولة في تنظيم المجتمع وبين من يناصرون دورها في تنظيمه من جهة، كما كانوا ينقسمون بين من يريدون تخفيض الضرائب الى أبعد حد ممكن وبين من يريدون استخدامها لتخفيف تفاوت مستويات التطور وتحسين عدالة الدخل.
لكن الصراع الانتخابي الطاحن اليوم في أميركا، لم يعد يقتصر على هذين العاملين.
فلقد بطرت أميركا بعد زوال العدو السوفياتي، وانتشت بالتفوق الاقتصادي، وفتحت أبوابها لهروب الصناعات نحو شرق آسيا وأميركا الجنوبية، وانهار العديد من القطاعات الصناعية التقليدية. فوق ذلك تكاسل مجتمع الأعمال عن تطوير الصناعة، بحيث انتقلت سلاسل الإنتاج الصناعي الحديثة الى اليابان وكوريا والمكسيك، وهُمشت القوى العاملة في الصناعات التقليدية، وتراجع دعم الريف والصناعات الزراعية الخ... ليرتفع عالياً احتجاج المهمشين من كل حدب وصوب.
وفوق هذا وذاك هز اقتحام اقتصاد المعلومات والذكاء الكوانتي، مقومات التفوق الأميركي، وليصير الانعطاف نحو الاقتصاد الجديد تحدياً وجودياً لمكانة أميركا وأمنها القومي.
ثم، كانت سخرية الأقدار حيث رست الولايات المتحدة على رئيسين متتاليين، أوباما وترامب. وكلاهما لا يجيدان، ولا يحبان الحساب والتخطيط الاقتصادي، بل يشعران بالمهانة أمام العارفين شؤونهما.
لذلك، تجد الولايات المتحدة نفسها أمام أزمات اقتصادية واجتماعية متراكبة. فهناك الصراع التقليدي بشأن دور الدولة وتوزيع الدخل، وهناك الصراعات المستجدة من اجل إعادة توطين الصناعات التي هربت من البلاد والصراع لإعادة هيكلة الاقتصاد وتحديثه استجابة للتطور العاصف الذي يخترق كل مفاصل الاقتصاد والأعمال، ويبدل جذرياً سلاسل الإنتاج والتموين.
كان حضور ترامب تجسيداً لهذا الاعتلال المجتمعي، ليهز بعمق قواعد الاستقطاب السياسي بين الأجيال والأعراق والطبقات الخ... فلقد نجح ترامب في اخراج أكثر من 10 ملايين ناخب بعدما غابوا عن التصويت في الانتخابات الرئاسية الأربعة السابقة. ثم اندفع ليفرض هيمنته على الحزب الجمهوري. ودخل في معارك تصفية ضد القيادة التقليدية للحزب "وحيدي القرن"، وطردهم من البيت الأبيض، وشن حملة ضد مرشحيهم في الكونغرس، وطهر مؤتمرات الحزب الجمهوري من أنصارهم، ليتحول جزء ملموس من الناخبين الجمهوريين التقليدين إلى كتلة الناخبين المتأرجحين.
الكتلة الثانية التي صارت متأرجحة هي النقابات التي تشكل قوة اجتماعية رئيسية، في الشمال الشرقي والوسط الغربي الأميركيين، حيث تتمركز القوى التاريخية للصناعة الأميركية.
وبعدما كانت النقابات كتلة انتخابية ثابتة على مدى قرن ونصف، صارت كتلة متأرجحة. فاحتجاجاً على تخلي الديموقراطيين عن مصالحها، وهروب الصناعات إلى الصين، صوتت النقابات لترامب. أما الآن فلقد عادت النقابات لتصير كتلة متأرجحة، بعدما تم إطلاق ثورة تصنيعية تاريخية لإعادة توطين الصناعة الأميركية وهيكلتها، استجابة لاستحقاقات ثورة المعلومات والذكاء الكوانتي. فبحسب الدراسات الاقتصادية، تدخل الصناعة الأميركية مرحلة ازدهار تفوق بكثير تلك التي تلت الحرب العالمية الثانية، ولتجر معها النقابات لتصير كتلة متأرجحة يتصاعد دورها السياسي بشكل لم يحصل من قبل في البلاد.
الكتلة الثالثة التي تتأرجح هي كتلة مجتمع الأعمال. فبعدما كان مجتمع الأعمال نصيراً صلباً للجمهوريين في تخفيض الضرائب وأولوية مصالح الشركات ضد البرامج الاجتماعية والبيئية الخطرة للديموقراطيين، ها هو ينتقل للتأرجح وهو ما لم يحدث منذ أكثر من 150 عاماً، وسبب ذلك إعادة توطين الصناعة والتمويل الكثيف لتحديث الاقتصاد.
وبعد، فمن الطريف أن نلاحظ هنا أن كتلتي النقابات والأعمال اللتين كانتا الأكثر ثباتاً وقدرة وكفاءة وعدداً في الانتخابات، تصبحان الآن كتلتين متأرجحتين.
الكتلة الرابعة هي المهاجرون اللاتينيون. وهم الكتلة الديموغرافية الأسرع نمواً. فلقد شهدت زيادة في قيمتها المضافة ومستواها التعليمي، لتصبح انتاجيتها ضعف إنتاجية العمال الصينيين في الصين ذاتها، بل يتوقع أن يصبح اللاتينيون الأكثر استهلاكاً في المستقبل.
يتضح أثر هذه الكتلة كلما اقتربنا من الحدود الجنوبية الغربية، بخاصة أنها الكتلة الأكثر قابلية وسرعة للاندماج في المجتمع، إذ يختفي اللاتينيون في نسيجه في غضون جيل أو جيل ونصف على الأكثر. بل أصبح مصطلح Gringo رمزاً للطموح الأميركي وليس تعبيراً عن الازدراء. وصار اللاتينيون يعتبرون أنفسهم من البيض في استمارات الإحصاء (وليس من هيسبانيين) حيث ينظرون الى هذا المفهوم كمفهوم ثقافي غير عرقي.
هاجرت الأجيال الأولى من اللاتينيين هرباً من الأنظمة الاستبدادية والاشتراكية في أميركا اللاتينية، ليصوتوا تاريخياً للحزب الجمهوري بالتعريف. لكن التحولات الاجتماعية، وانخراط اللاتينيين في بنية المجتمع، ونمو جيل الشباب، جعلت الكثيرين منهم يتحولون تدريجياً نحو موقف مناصر لدور اجتماعي أكبر للدولة، وليصبحوا بشكل عام كتلة متأرجحة.
الكتلة الخامسة هي ناخبو الضواحي الذين تشغلهم المخاوف الاقتصادية، ليتبدل تدريجياً موقفهم من السياسات الضريبية والتعليم والصحة التنمية الاقتصادية المحلية.
الكتلة السادسة كتلة المستقلين التي ستكون حتماً ورقة حاسمة في الانتخابات المقبلة. وتشكل هذه الكتلة 10 - 15٪ من الناخبين الذين عبروا عن تأرجح ثابت في مواقفهم. ويميل المستقلون حالياً الى إعطاء الأولوية لقضايا سياسية محددة أكثر من تصويتهم للانتماء الحزبي. وفي الانتخابات النصفية الأخيرة عبّر تصويتهم عن خيبة الأمل من الأحزاب، وعن ميلهم الى التصويت للمرشحين الداعمين للاستقرار، والمرشحين الوسطيين والبراغماتيين.
الكتلة السابعة هي الشباب ما بين 18- 29، إذ يحدد موقف هؤلاء أكثر من أي وقت مضى قضايا كبيرة مثل تكاليف الدراسة، وتغير المناخ، والعدالة الاجتماعية والعرقية والمساواة بين الجنسين وحقوق المثليين.
الكتلة الثامنة هي الأميركيون من أصل أفريقي وموقفهم من الحقوق المدنية والتصويت وإصلاح الشرطة والعدالة الجنائية وتحسين فرص العمل والرعاية الصحية والتعليم.
وهكذا، تتأرجح غالبية الأميركيين. ليصبح المتأرجحون الأكثر وزناً هذه الأيام. وفي مراجيح الانتخابات، لن يكون الفوز لمن يعلو صراخه، بل لمن يتقن ربط حبال المراجيح وفن توازنها.