بعد ساعات على تهديد زعيم "حزب الله" قبرص بعظائم الأمور إذا ما استخدمت إسرائيل مطارات الجزيرة، بات مطار رفيق الحريري في بيروت عرضةً لخطر داهم. استشعرت حكومة لبنان الأمر وهرعت تستدعي الجهات الإعلامية والدبلوماسية لتبرئة مطار البلاد من تهمة استخدامه من قبل "حزب الله" وصواريخه. ولئن ردّد الحزب سابقاً تهديدات بضرب مطار بن غوريون إذا ما استُهدف مطار العاصمة اللبنانية، فإن "افتراءات" صحيفة "التلغراف" اللندنية كانت بمثابة قصف مسبق مكثّف وموجع استدعى مظلّة حكومية عاجلة.
ليست المرّة الأولى التي تتحرّك فيها حكومات الدولة لترقيع آثام الدويلة وشططها. والواضح أن التهديدات والعراضات المتعجّلة التي يطلقها الحزب لأغراض التعبئة والتحريض والاستهلاك المحلي، تجعل منه فريسة سهلة لأي اتهام يصدر عن مصادر إسرائيل العليا أو تقارير الزواريب وهمهماتها. وفيما يتعامل "حزب الله" مع لبنان كميدان قتال مفتوح يجوز داخله رفع السواتر وحفر الأنفاق ومدّ شبكات التواصل والبنى اللوجستية، فإن من كيد الأعداء التعامل مع البلد ميداناً عسكرياً لا فرق في تفاصيله بين مطار مدني ومرفأ تجاري وتلال وادعة وأحياء أهلية ساكنة.
تنبري حكومة بيروت المنهمكة في "تصريف الأعمال" إلى تسويق رواية مرتجلة زعم الدبلوماسيون ووسائل الإعلام تصديقها. قاد "وزراء الدولة" الشهود إلى "مسرح الجريمة" فأفحموهم بخلوها من أي جريمة أو إثم. كان بإمكان حكومة نجيب ميقاتي أن تكتفي ببيان حازم تنفي فيه المزاعم والافتراءات. هكذا عادةً تتصرف الحكومات ذات السيادة التي لا تحتاج إلى شهادة ممثلي دول العالم ولا إلى آرائهم في شؤون إدارة البلد ومرافقه ومطاراته. فحتى التهديد برفع دعوى ضدّ الصحيفة "المفترية" بدا خجولاً متناسلاً من تراجع لبنان قبل ذلك عن اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية ضدّ إسرائيل. والفضيحة أن تقرير الصحيفة البريطانية جاء خفيفاً موضّباً زاعماً الاستناد إلى شهادات مجهولة في توقيت واضح في خبثه. ومع ذلك أُصيب الحزب بالذعر الذي ولّد هلعاً في بيروت سارع سفراء العالم في لبنان إلى احتضانه والتهدئة من روعه.
لا شيء يدفع إلى تصديق تقارير الأيام الأخيرة وتقارير السنوات السابقة الصادرة من إسرائيل والعواصم الحليفة بشأن قيام "حزب الله" بتخزين صواريخه المليونية داخل أحياء البلد ومرافقه العامة.
فحتى انفجار مرفأ بيروت ثبت في النسخ الأكثر صدقية في وثائق حكومات لبنان أنه نتيجة حادث عرضي مجهول. ثم أن بديهيات الأمور أن الحزب الذي لا يمتلك ثكنات ومستودعات علنية رسمية شرعية (طالما أن البيانات الوزارية تقوْنن أنشطته وأسلحته)، يخزّن صواريخه في مساحات سحابية رقمية خارج نطاق البلد وحاراته. ولأن الجيمسبوندية التي تعمل وفقها آلة الحزب العسكرية تنفخ مخيلات دونكيشوتية تفرج عنها قرائح ضيوف الفضائيات، فإن كل الافتراءات التافهة تصبح معقولة واردة تصدقها أولاً حكومة بيروت لتندفع برشاقة وشطارة إلى تفنيدها ونفيها والقَسَم بزيفها.
تكشف "فقاعة" "التلغراف"، على خفّتها، هلعاً في لبنان من احتمالات حرب لا ينفك قادة إسرائيل يهدّدون بها. والهلع من الحرب من شيم البشر وطبيعتهم الإنسانية وغرائز الخوف والبقاء التي تتملكهم.
والهلع هو مرادف في التركيبة الداخلية لدعوات "يا سيّد يلا" وليس نقيضها. وفي الاستفاقة على تهديد الجزيرة الجارة هلع من نوع آخر يندرج داخل مناورة يراد لها التلويح بالقدرة، عند الحاجة، على هدم المعبد على كل الرؤوس حتى لو كان بينها رأس تقف وراءه 26 دولة أخرى داخل الاتحاد الأوروبي. والواقع أن الأمر أيضاً ليس إلّا فقاعة لزوم عدّة الشغل استلزم الردّ عليها بفقاعة لندنية خبيثة.
أمر هذا الجدل يطرح أسئلة بشأن جاهزية المناعة الداخلية اللبنانية على الصمود في حرب تتبارى إسرائيل و"حزب الله" على التباهي باحتمالاتها. فمقابل التصدّع الواضح في الجبهة الداخلية الإسرائيلية لا يأبه "حزب الله" بتصدّع جبهة لبنان الداخلية. تكاد منابره تقسم بتوق الشعب اللبناني لخوض الحرب دفاعاً عن غزّة وعدم الاكتراث لأصوات سياسية معترضة منتقدة ولأصوات مجتمعية واقتصادية تحذّر من كارثة أي حرب تُضاف إلى كوارث لبنان. وإذا ما يشهد الداخل الإسرائيلي جدلاً علنياً بين جيش وحكومة، ومعارضة وموالاة، وتخطّ الصحف مقالات التساؤل والمراجعة، فإن ذلك ممنوع في لبنان، ذلك أن "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، فإن علا فهو جلبة عمالة وخيانة وصفاتٍ فاجرة.
وجب ربما التذكير بأن إسرائيل خاضت حرباً ضدّ بلادنا عام 2006. كان ذلك ردّاً على أسر جنود لها وانتقاماً لذلك. انتهت الحرب بتدخّل دولي وبقرار مجلس الأمن الرقم 1701 وبقوات أممية. شكّلت إسرائيل "لجنة فينوغراد" للتحقيق والتقييم. أصدرت اللجنة أحكامها فسقطت رؤوس واستُخلصت الدروس والعبر. في مقابل اكتفى لبنان بـ"النصر المبين" وباشر مسار الإنحدار إلى ما كاد يفجّر حرباً أهلية عام 2008.
وفيما لا يرى الحزب في حربه القادمة إلّا جمهوره المخلص ويُشهر "عدّاداً" ضدّ أي جمهور آخر، فإن لبنان بات بعيداً عن توفير المظلات الواقية، وعاجزاً عن تأمين منعة داخلية ووحدة لتعدّده. وإذا ما كان من بديهيات الإعداد للحروب تحضير البيت والإصغاء إلى أهله، فإن في الإطلالات وضجيجها ما لا يأخذ في الحسبان مسار بلد ومصيره.
في الجولة التي نُظّمت لشهود الداخل والخارج في مطار العاصمة ما يشي بأن الحزب الذي يتبرّع بالدفاع عن لبنان والذود عن شعبه، بات يحتاج إلى الدولة لتدفع عنه افتراءات المفترين. وفي كل مرّة يتسلّق الحزب أعالي الشجر يعود إلى الدولة عوناً له للهبوط من البروج العالية صوب أرض الكوكب حيث للعالم أصول ومنظومات وتقاليد. وإذا ما كانت إدارة الصراعات تحتاج لرؤوس باردة، فحريّ أن لا تستدرج قمم الأغصان زوبعة ما هي إلّا "حكي جرايد" في لندن.