لا يكاد يُجمع الفرنسيون اليوم على أمر، بقدر إجماعهم على أن الجمهورية الخامسة التي وضع الجنرال ديغول أسسها، قد شارفت على النهاية. لكن إنكار البعض ذلك لا ينبع من حرص على هذه النسخة من الجمهورية، بل من خوف حول هوية الجمهورية السادسة.
منذ أن عجز الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قبل عامين، عن تأمين أغلبية مطلقة في البرلمان، ظهرت بقوة أطروحات نهاية الجمهورية الخامسة. ذلك أن هذه الجمهورية الديغولية تقوم أساساً على قوة موقع الرئيس، وحين لم تحقق الانتخابات في ذلك الوقت حتى شروط إقامة حكومة للتعايش، بدا واضحاً أن الدولة قد دخلت في حيز استحالة الحكم. لكن الشهور التي تلت ذلك الحدث، ربما، أوهمت البعض بإمكان المواصلة بلا أغلبية. ثم جاءت الأزمة الراهنة، التي أعقبت الانتخابات الأوروبية كصفعة لكل واهم.
يتمتع الرئيس في الجمهورية الخامسة بموقع مركزي في الدولة. حتى أن بعضهم يطلق عليها اسم "الملكية الجمهورية". فالنظام السياسي الفرنسي لا يشبه أي نظام آخر في طيف الأنظمة الديموقراطية الغربية، ولكنه استثناء تام في ما يتعلق بالمعايير المؤسسية المعمول بها. رئيس الدولة، في الممارسة العملية، ليس مسؤولاً أمام البرلمان، وبيده سلطات واسعة تشمل الحكومة والنواحي التنفيذية، فضلاً عن قدرته غير المباشرة على فرض الانضباط على المشرعين من خلال موقعه الحزبي. ذلك أن هذا النظام شبه الرئاسي الفرنسي هو في الواقع نظام رئاسي مفرط بطبيعته. وكما يتوقع لها، مؤرخ المؤسسات والأفكار السياسية فيليب فابري، فإن الجمهورية الخامسة محكوم عليها بالسقوط، لأنها أصبحت تمثل حالة شاذة، محاطة بالديموقراطيات البرلمانية، ليس فقط في المنطقة الأوروبية، حيث إن جميع جيران فرنسا لديهم نظام مماثل في ما بينهم، ولكن أيضاً في تاريخ البلاد نفسها، لأنه بصرف النظر عن الاحتلال، كان لفرنسا نظامها البرلماني بين 1877 و1958.
في جانب آخر من أزمة الجمهورية الخامسة، يعتقد عالم السياسة، فابيان اسكالونا، في كتابه "جمهورية تلفظ أنفاسها" أن أزمة النظام السياسي التي تعيشها فرنسا ليست مجرد مسألة قانون دستوري. فهي أزمة تتعلق بالمؤسسات السياسية، ولكنها تؤثر أيضاً على التنازلات الاجتماعية وأفق المعنى الممنوح للبلد. في هذه الأبعاد الثلاثة، تراكم الجمهورية الخامسة الآن التناقضات والأفكار العتيقة. وتزداد ضعفاً في مواجهة الإغراءات الاستبدادية، إذ لم تخسر الجمهورية الخامسة فحسب، تناسقها الدستوري، بمركزية موقع الرئيس في السلطة، ولكن خسرت على نحو كارثي طبيعتها راعياً لدولة الرعاية الاجتماعية، والتي أسست من خلالها القاعدة الاجتماعية الصلبة للنظام السياسي. فمن خلال التحول النيوليبرالي للدولة، والذي فرضته التحولات العالمية منذ نهاية الثمانينات والتزامات الوحدة الأوروبية، أصبحت أسس دولة الرعاية تتفكك واحدةً تلو الأخرى. فضلاً عن أن الحجم الجيوسياسي للدولة قد تراجع من كونها إحدى الدول العظمى إلى دولة قوية ضمن سبع وعشرين دولة أوروبية. كما أصبحت قدرة رئيس الدولة على التصرف مقيدة، ومقيدة بـ"الحكم المتعدد المستويات" الذي لم يعد له علاقة كبيرة بالحالة القوية التي تتمتع بها خلال حقبة الثلاثين المجيدة (1945 – 1975). في الوقت نفسه ظل خطاب العظمة لا يتماشى مع التوجهات الجيواستراتيجية "الحقيقية" لفرنسا.
في المقابل، كان إيمانويل ماكرون بالنسبة إلى قطاع واسع من النخب السياسية، ولا سيما المالية، المنقذ المفترض للجمهورية الخامسة، أو مجدداً لها. فيما قدم ماكرون نفسه كرئيس شاب يمتلك أفكاراً ثوريةً وكاريزما مؤثرة. لكن السلطة لا تعني رمي العملات المعدنية في الهواء والدعاء لكي تسقط على الجانب الصحيح من التاريخ.
فالماكرونية، بدلاً من تجديد نظام الجمهورية الخامسة، عملت على إطالة أمد أزمتها الزاحفة. وقد أدى ذلك إلى تفكك لا هوادة فيه للروابط التي من المفترض أن توحد الجسم المدني بنظامه السياسي. إن انعدام الثقة على نطاق واسع، والخروج المتزايد من الانتخابات، والاحتجاجات الاجتماعية المتكررة المحرومة من المنافذ السياسية، جعلت الشعور بالمأزق وقلة الحيلة يهيمن على المزاج العام ودفعت بقطاعات واسعة من الشعب نحو طرفي المعادلة: أقصى اليمين الشعبوي، وأقصى اليسار الراديكالي، فيما تحولت هذه الهجرة السياسية والانتخابية من الوسط نحو الأقصى، إلى مسرّع جديد في طريق الجمهورية الخامسة نحو الانهيار حيث يسعى كل طرف من القطبين إلى تحقيق تصوره المفترض لجمهورية سادسة.
يعتقد أقصى اليسار أنها يجب أن تكون برلمانيةً وبيئيةً واجتماعيةً، فيما يسعى اليمين الشعبوي إلى مزيد من تعزيز النظام الرئاسي، ليصبح رئاسوياً، في جمهورية قومية بيضاء خالية من الأجانب والمهاجرين، وتبتعد شيئاً فشيئاً عن الاتحاد الأوروبي.
وأمام غياب أي تصور للوسط السياسي للجمهورية السادسة، تسعى الماكرونية ويمين الوسط، إلى محاولة إعادة إنتاج الجمهورية الخامسة من دون أفق لتغييرها. وهي خطوة تبدو عكس اتجاه التاريخ، وعكس اتجاه ما يريده الناس، وعكس اتجاه الشروط السياسية الراهنة في فرنسا وأوروبا. فالجمهورية التي صممها الجنرال ديغول قبل أكثر من ستة عقود، لتلائم وضعه الخاص كعسكري سابق، ولتلائم وضع البلاد، التي كانت بصدد التحول من إمبراطورية استعمارية إلى دولة عظمى، أصبحت غير قادرة على إعادة إنتاج نفسها. وغير قادرة على تلبية طموحات سكانها، وغير قادرة على تأمين استمرارية الدولة.