زعيم حزب العمال البريطاني السير كير ستارمر (62 عاماً) يشبه من حيث حداثة عهده بعالم السياسة، زعيم حزب المحافظين الحاكم ريشي سوناك الذي سيعطيه مفاتيح 10 داونينغ ستريت في الرابع من تموز (يوليو)، على الأغلب. لكنه يختلف عنه في الوفاء لماضيه. لم يكتفِ ستارمر بالنأي بنفسه عن اليسار الذي كان من نجومه، بل تحول إلى عدو علني لرفاق الأمس وبطش بهم واحداً تلو الآخر. في سيرته، يختلط حابل نظريات المؤامرة بنابل الواقع، لوجود علاقة قوية بين صعوده وبين إسرائيل وجماعات ضغط تدعم مصالحها.
تقدم على خصمه سوناك في حماسته لدعم إسرائيل، مع أنه زعيم حزب يشكل المسلمون البريطانيون شريحة كبيرة من ناخبيه وممثليه في المجالس البلدية ونوابه. ولم يعارض استعمالها الماء والكهرباء والغذاء أسلحة لقتل أبناء قطاع غزة. وتناقض موقفه من غزة مع دفاعه المستميت عن أوكرانيا، تناقضاً كبيراً.
يبدو أن الجمع بين الشيء وعكسه أصيل في حياته المجبولة بالتناقضات. ابن أب عامل وأم ممرضة من ذوي الاحتياجات الخاصة، استكمل في أواسط ثمانينات القرن الماضي دراساته العليا في القانون في جامعة أكسفورد التي كانت مكاناً قصياً عن بيئته البسيطة. وكان سيبتعد أكثر فأكثر عن جذوره بعد نحو عشرين سنة حينما عُيّن مديراً لسلك الادعاء العام في إنكلترا وويلز. وخرج من تلك الوظيفة الرفيعة بلقب شرف من رتبة فارس، ما جعله في 2020 أول "سير" يقود حزب العمال في تاريخه (124 عاماً). وفيما ازداد أهمية وثراءً، في العشرين سنة الماضية، كان شقيقاه يكافحان لسد رمق عائلتيهما. هذا إنجاز لافت في أحد جوانبه، وكان سيستحق ثناءً أكبر لو أن ستارمر ظل وفياً لبداياته، حريصاً على معالجة جذور مشكلاتها.
إلا أن أداءه يوحي أنه نسي تلك الأيام. بين الالتزامات العشرة التي تعهد تنفيذها بعد انتخابه زعيماً، ومواقفه الحالية، فجوة كبيرة. مثلاً، يشكل دعمه إسرائيل في حربها على غزة انتهاكاً صريحاً لتعهده تعزيز السلام واحترام حقوق الإنسان. كما لم يفِ بالتزامه الدفاع عن حقوق المهاجرين.
بيانه الانتخابي الذي يجسد جنوحاً واضحاً نحو الوسط مشوباً بطابع اشتراكي خفيف، لا يخلو من تأكيد التعهدات العشرة فحسب، بل يذهب في اتجاه معاكس لها. وهذا يجعله أسوأ من سوناك الذي فشل في تحقيق تعهداته الخمسة، لكنه لم يتنكر لها.
ويرى منتقدوه، أنه متردد، كثيراً ما يقول شيئاً ويفعل شيئاً آخر. امتدح سلفه جيرمي كوربين حينما حلّ محله. والأخير وليّ نعمته الذي أسند إليه وظيفة مهمة بينما كان لا يزال نائباً جديداً، إذ عينه وزيراً للبريكست في حكومة الظل، حيث بقي من 2016 وحتى 2019.
وبعد خسارته الكاسحة في انتخابات 2019، اعتبر ستارمر أنه كان يمكن أن يكون رئيس وزراء ممتازاً. ولم يطل الوقت حتى جمّد عضويته بسبب اتهامه بمعاداة السامية التي يعتقد يساريون أنها فُبركت لـ"قصّ" رأسه لأنه مؤيد للحق الفلسطيني.
قد لا يُلام سياسي جديد إذا لم ينقذ زعيمه السابق في معركة خاضها بسذاجة. بيد أنه يصبح مذنباً إن اعتبره غريباً وصعد على جثته إلى كرسي القيادة، أقله لكي لا يسيء إلى نفسه. وستارمر نفى أخيراً أن كوربين كان صديقه. فصار الصغير والكبير يتساءل هل كان يكذب حين أشاد بكفاءته واستقامته؟
وقيل إن إدانة كوربين بمعاداة السامية كانت جزءاً لا يتجزأ من مشروع صناعة الزعيم البديل ستارمر الذي نفذته جماعات ضغط وممولون مؤيدون لإسرائيل كما كانت لسفارتها في لندن يد فيه مباشرة. وهذه ليست نظرية مؤامرة، كما كشف الشريط الذي أعدته قناة "الجزيرة" تحت عنوان "اللوبي" (2017) واعترف فيه دبلوماسي إسرائيلي صراحة بمحاربة منتقدي بلاده من سياسيين وناشطين بريطانيين.
مرحى لستارمر إذا كان حريصاً على مكافحة معاداة السامية. ويجب ألا يتغاضى عن أشكال أخرى من العنصرية متفشية في حزبه، مثل معاداة المسلمين، التي يدل إليها التراجع عن ترشيح فايزة شاهين لأسباب واهية، وإساءة معاملة الملونين مثل بديان أبوت أول نائبة عمالية سوداء دخلت مجلس العموم قبل أربعين سنة. وهذه كادت تُحرم من خوض الانتخابات باسم حزبها، لولا الاحتجاجات الصاخبة التي أجبرت ستارمر على التراجع عن قرار ظالم.
وفيما يقف ستارمر على مسافة أيام من فوزه شبه الأكيد، سيذكر له التاريخ أنه حرر الحزب من غياهب المعارضة حيث قبع 14 عاماً. وبغض النظر عن درجات النجاح والفشل، سُيسَجل له أنه بذل قصارى جهده لبلوغ هذه الغاية. وحبذا لو تذكر دائماً أن السلطة وسيلة وليست غاية ينبغي أن يبيع روحه في سبيلها. ويا ليته يدرك بتواضع أن العالم الحاسم في انتصاره ليس نجاحاته الباهرة على صعيد السياسات، بل انهيار حزب المحافظين الكارثي.
العمل من داخل السلطة مختلف عنه من خارجها. والحزب الذي يشعر أعضاؤه أنهم مهمشون محرومون من حقهم بحرية التعبير، قد يسقط سقوطاً مدوياً في امتحان الحكم. وربما يتعرض لضربات مؤلمة كالتي ستكون من نصيب ستارمر إذا انتصر كوربين وشاهين كمرشحين مستقلين، وهو أمر ممكن، بعدما حاول أن يكمّ فم كل منهما من دون جدوى.
توني بلير، رئيس الوزراء الأسبق، لم يطرد نواباً، مثل كوربين نفسه، اختلفوا معه بشدة حول غزو العراق وتأييده إسرائيل في حرب لبنان (2006) ومواقف وسياسات شتى. ولعل الديموقراطية، ولو تجاهلها أحياناً، من الأسباب التي جعلته صاحب سجل استثنائي.
ثمة درس آخر يمكن استخلاصه من تجربة بلير، الذي كذب بشأن غزو العراق ما شوّه سمعته تشويهاً لا فكاك منه، وهو أن الصدق حبل الخلاص. ولا حاجة بستارمر للخوف من البوح بموقفه الحقيقي من البريكست والهجرة، والبيئة والعدالة الاجتماعية وغيرها من تعهداته.