أربعة عوامل تسمح لليمين المتطرّف في أيّ دولة في العالم أن ينمو ويزدهر ويشق طريقه الى السلطة: الخوف، الكراهية، التفقير والفخر!
هذه العوامل تعززت، في السنوات الأخيرة في فرنسا التي أنهت، أمس الأحد المرحلة الأولى من انتخاباتها التشريعية المبكرة وتختتمها، الأحد المقبل، في دورة ثانية ونهائية، حيث تظهر الخارطة النهائية للجمعية العمومية وترسم ملامح الحكومة المقبلة، من جهة ومستقبل فرنسا، لثلاث سنوات على الأقل، حين يحين موعد فتح صناديق الاقتراع للانتخابات الرئاسيّة التي لا يحق لإيمانويل ماكرون أن يُرشّح نفسه فيها، بعد أن يكون قد أكمل ولايتين رئاسيتين متتاليتين.
ولم يعد سرّاً أنّ غالبية فرنسية راكمت خلال السنوات الماضية كل المشاعر السلبية تجاه المهاجرين عموماً وضد المسلمين منهم خصوصاً، بحيث جرى تحميلهم كل المشاكل الناشئة في المجتمع، فباتت طريقة التعامل مع هؤلاء، هي سبب تدني الخدمات، والعجز في الصناديق الضامنة، والاكتظاظ في السجون، وارتفاع الجريمة في الشوارع، واستقواء العصابات، وتغيير هوية البلاد وطبيعتها الديموغرافية.
ولعب اليمين المتطرّف على هذه المشاعر، فعززها واستغلّها.
وكان لافتاً للانتباه أنّ الفرنسيين، باتوا أكثر يمينية، منذ سنوات طويلة، ولكنّهم أبقوا أنفسهم بعيدين عن أحزاب اليمين المتطرّف. التطورات التي حصلت في السنوات الأخيرة، غيّرت المسار العام، ففي وقت وضع حزب "التجمع الوطني" الذي ترك اسمه القديم (الجبهة الوطنية)، ماء في نبيذه، بحيث قرّب نفسه، لفظاً، من اليمين الوسط، نشأت على يمينه تنظيمات أكثر راديكالية قادها الصحافي إريك زيمور، من جهة والمنشق عن "التجمع الوطني" فلوريان فيليبو، من جهة أخرى.
اليمين المتطرف واللوبيات اليهودية
وتصالح "التجمع الوطني"، بفعل التقاطع على العدو، مع اللوبيات اليهودية في فرنسا، بحيث خرجت وجوه بارزة في "التيار اليهودي" الفرنسي ترفض شيطنة "التجمع الوطني" الذي طرد من صفوفه من كانوا يوسمون بأنّهم "أعداء السامية"، وعلى رأسهم مؤسس حزب "الجبهة الوطنية" جان ماري لوبن. وفي ضوء الحرب في غزة، تعزز هذا التقارب، وخصوصاً أنّ "التجمع الوطني" أصبح هو العائق الأهم دون وصول "اليسار الراديكالي" برئاسة جان لوك ميلونشون الى السلطة. ميلونشون الذي أخذ مواقف ضد إسرائيل لمصلحة الفلسطينيين وقدم في الانتخابات الأوروبية المرشحة المعادية لإسرائيل ريما حسن وتمكن من إدخالها الى البرلمان الأوروبي على لوائح حزبه: "فرنسا الأبيّة".
وليس سرّاً أنّ المصالحة بين "التجمع الوطني" واللوبيات اليهودية في فرنسا، جعلت الحزب الذي تتزعمه مارين لوبن ويترأسه جوردان بارديلا، أكثر مقبولية في عالم الاقتصاد، وغير مشيطن في عالم الإعلام. وهذان تطوران مهمان للغاية، إذ جعل الميالين الى شعارات "الجبهة الوطنية" أكثر جرأة على التعبير عن قناعاتهم والترويج لها.
ومع صعوده في استطلاعات الرأي، والانهيار الحاصل في "اليسار الوسطي" و"اليمين المعتدل" وجدت اللوبيات اليهودية حليفاً "اضطراريّاً" في "التجمع الوطني" الذي نقل عداءه التاريخي للسامية نحو المسلمين، فلم يعد اليهود هم ضالته الوطنية، بل المسلمون.
وهكذا لم يعد "المشيطن" هو اليمين المتطرّف بل اليسار المتطرّف.
وفي هذا السياق، أعلن سيرج كلارسفيلد، المؤرخ البارز للهولوكوست وصيّاد النازيين: "لن أتردد، سأصوت للتجمع الوطني. الآن أنا في مواجهة يسار متطرف في قبضة "فرنسا الأبية"، الذي تفوح منه رائحة معاداة السامية ومعاداة الصهيونية العنيفة".
وفي الشهر الماضي، التقى الوزير في الحكومة الإسرائيلية عميحاي شيكلي، رسمياً لأول مرة مع مارين لوبن، منهياً مقاطعة استمرت عقوداً للبلاد من قبل الحكومة الإسرائيلية.
وقال رئيس التجمع الوطني جوردان بارديلا إن الاعتراف بدولة فلسطينية سيكون "اعترافاً بالإرهاب".
اليمين المتطرف وروسيا
ودخلت الحرب الروسية على أوكرانيا على الخط. فلاديمير بوتين، يرى في اليمين الراديكالي حليفاً طبيعيّاً له في أوروبا المعادية. هو يعرف أنّ هذا اليمين قد لا يقوى على عقد تحالف سياسي معلن معه، ولكنه واثق بقدرته على "تحييد" الدول التي يحكم فيها.
وطالما وقف بوتين الى جانب "التجمع الوطني"، حتى إنّه في أزمة هذا الحزب المالية، وفّر له قروضاً جزيلة، ومن دون ضمانات، من المصارف الروسية. ولعب الروس، بفعل الخبرة، بشكل محترف، على عقول الناخب الفرنسي، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت، فعزز السرديات التي تخدم "الجبهة الوطنية". ومن يتابع عن كثب غالبية كبرى من "المؤيدين الجدد" للتجمع الوطني، ولا سيّما في صفوف شريحة الشباب، يكتشف أنّ هؤلاء لا يتحدثون، عمليّاً، في السياسة لتبرير خياراتهم، بل يكثرون من تقديم ما يعتبرونه وقائع، هي في أغلبيتها، غير دقيقة هنا وخاطئة هناك ومضخمة هنالك.
التجربة الإيطالية
وشجعت التجارب الأوروبية المحيطة بفرنسا على إنجاح شعار "خلينا نجرّبهم" الذي رفعه كثيرون، في الآونة الأخيرة، بعدما يئسوا من أن تأتيهم الحلول على أيادي "الأحزاب التقليدية" أو الأحزاب المنبثقة عنهم، كما هي الحالة السياسية للرئيس الحالي ايمانويل ماكرون. أهم تجربة راقبها الفرنسيون كانت التجربة الإيطالية مع إيصال اليمين المتطرف لجورجيا ميلوني الى رئاسة الحكومة. بالنسبة للفرنسيين عززت ميلوني الحضور الإيطالي في العالم عموماً وفي أوروبا خصوصاً، من دون أن تُحدث "كوارث" في بلادها، في وقت تراجعت مكانة فرنسا، على عهد ماكرون، على الرغم من طموحاتها "الإمبراطورية".
هيبة السلطة
بالنسبة لكثير من الفرنسيين تحتاج فرنسا الى سلطة تقف وراء الشرطة من أجل إعادة الاعتبار لهيبة الدولة، في مواجهة المهاجرين "المنحرفين" كما في وجه "الصعود الإسلامي"، ولا بد من أيصال من ينقل أموال الفرنسيين الموزعة على أدوار "ثانوية في العالم" لمصلحة المستشفى والمدرسة، وفق جوردان بارديلا الذي قال إنّه سيخصص الأموال التي يتم إرسالها الى إغاثة الفلسطينيين في غزة من أجل إغاثة الفرنسيين الذين جرى تفقيرهم في الأرياف، وهم يعتقدون بأنّ هذا اليمين الموصوف بالمتطرف وحده قادر على الوقوف في وجه "ديكتاتورية" بروكسيل، من أجل تقديم مصالح الوطنية الفرنسية على "الأممية الأوروبية".
هل هذه هي الحقيقة؟
السؤال ليس في مكانه. حاليّاً لا أحد يفتش عن الحقيقة. الأكثريّة تلهث وراء مشاعرها وأحلامها!