خلال الأسبوع المنصرم، تمخض اجتماع مجلس الوزراء الجزائري، برئاسة الوزير الأول نذير العرباوي، عن قرار كان قد انتظره طويلاً أهالي محافظات جنوب الوطن، وتمثل في الدعوة إلى تنفيذ تعليمات الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون القاضية بضرورة التغلّب على جميع العراقيل والصعوبات من أجل توظيف الشباب القاطن في المحافظات الصحراوية في مختلف المؤسسات التابعة للدولة، خصوصاً مؤسسات قطاعي الشباب والرياضة.
من الملاحظ أن هذا الاجتماع الوزاري لم يحدّد بعد الجدول الزمني الذي ينبغي أن يتمّ فيه تطبيق تعليمات رئيس الدولة الصادرة في يوم 23 حزيران (يونيو) 2024، مثلما لم يذكر الآليات التي سوف تتبع لتجسيد هذا الهدف المهم. غير أن التعليقات الصادرة عن المراصد التي تراقب تطورات عمليات القضاء على البطالة في الجنوب الجزائري أعربت عن تفاؤلها، بخاصة أن تعداد العاطلين من العمل في هذا الفضاء الجغرافي، غير المكتظ بالسكان، أقل كثيراً من عددهم في وسط وشرق وغرب وشمال البلاد الجزائرية، حيث يقترب تعداد السكان فيها من 40 مليون نسمة.
ويُلاحظ أن حكومة العرباوي ترمي إلى التعامل مع الأولويات، وفي المقدّمة تقليص البطالة من طريق تطبيق آلية مثلثة الأضلاع، وهي: مواصلة تقديم المنح للعاطلين من العمل الذين تتراوح أعمارهم بين 19 و40 عاماً، وتنفيذ خطة استصلاح الأراضي في كامل منطقة الجنوب الجزائري بشكل خاص، ودعم هذه العملية ذاتها بتقديم المساعدات المالية واللوجستية للمستفيدين من الأراضي التي سوف تخضع لعمليات الاستصلاح، وخلق مناصب الشغل في مجالات الرياضة والمهنيات التي تحتاج إليها التنمية في الفضاء الجغرافي الجنوبي الجزائري.
في هذا السياق، هناك مجموعة من الاقتراحات التي ما فتئت تظهر هذه الأيام في وسائل التواصل الاجتماعي، وأيضاً في عدد من الصحف والقنوات التلفزيونية، وتتلخص في الدعوة إلى التفاعل الإيجابي مع قرار الحكومة وتعليمات الرئيس تبون، وذلك من طريق حث الجهات المسؤولة على مستوى إدارات ولايات (محافظات) جنوب البلاد، لنشر الإحصاءات الصحيحة بعدد الشباب الذين يحتاجون فعلاً إلى التوظيف فيها، وتنظيم ندوات جهوية مكثفة تُتوّج بندوة وطنية مخصصة للمجتمع المدني الجنوبي، وذلك من أجل وضع صيغ وبرامج ومنظورات، يمكن على أساسها رسم خطة وطنية متكاملة وواضحة، قادرة على القضاء تدريجاً على أسباب التهميش الذي عانى منه أهل الجنوب الجزائري قبل مرحلة العشرية الدموية وخلالها، وبعد ذلك أثناء الصراعات على السلطة في عهد الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، الأمر الذي خلق ظاهرة الهجرة من الجنوب إلى شمال البلاد، ما أدّى إلى نتائج سلبية كثيرة منها، مثلاً، أزمة السكن وآفة البيوت القصديرية، فضلاً عن تعطيل تنفيذ مطلب التوازن الاقتصادي والاجتماعي الجهوي عبر كل محافظات البلاد.
ويعتقد المتابعون، أن توظيف الشباب في قطاعي الرياضة والشباب لا يكفي، بل ينبغي فتح باب استيعاب الأجيال الشابة في قطاعات الصناعات الخفيفة والزراعة والفلاحة، لأن الجنوب الجزائري يمثل خزاناً معتبراً للثروة الوطنية التي تحافظ على أوكسجين التنمية الوطنية منذ الاستقلال حتى اليوم، حيث أن عائدات الغاز والبترول هي التي تشكّل العمود الفقري للدخل الوطني الإجمالي، وهي تقدّر بما لا يقلّ عن 70 في المئة منه. وأكثر من ذلك، مكّنت عمليات استصلاح أراضي مناطق عدة في الصحراء الجزائرية، التي تُعتبر أكبر صحراء في العالم، من إحداث طفرة فلاحية وزراعية معتبرة، حيث تحولت ولاية (محافظة) وادي سوف الصحراوية، على سبيل المثال، إلى عملاق فلاحي وزراعي يغطي نسبة معتبرة من حاجيات المجتمع الجزائري.
في هذا الخصوص، ينتظر شباب الجنوب الجزائري تعميم نموذج استصلاح أراضي ولاية وادي سوف على جميع ولايات (محافظات) الجنوب والهضاب العليا معاً. من المؤكّد أن هذا التعميم المنشود سيخلق، إذا تمّ التخطيط له وفُعّل وفق منهجية علمية، آلاف مناصب العمل لفائدة أبناء الصحراء ولشباب كل مناطق الجزائر.
في الواقع، مثل هذا المشروع يمكن أن يُحدث نقلة نوعية في الاقتصاد الزراعي والفلاحي الجزائري، ويُخرج البلاد من التبعية والاستيراد، ويضعها في صدارة البلدان المنتجة للثروة الفلاحية والزراعية. وفي الوقت نفسه، سيلفت انتباه الفاعلين في الأسواق العالمية، والباحثين الذين يؤثرون في هذه الأسواق. ومن المؤسف أن كتاباً علمياً يمثل مرجعاً مهمّاً صدر عن جامعة كامبردج البريطانية، بعنوان "أنظمة العالم الفلاحية"، لم يذكر أنواع ومصادر الثروة الفلاحية والزراعية الجزائرية إلّا في ثلاث جمل مختزلة، علماً أن التاريخ الفلاحي والزراعي للجزائر معروف، ومساحة الجزائر الصالحة للزراعة والفلاحة أكبر من ربع مساحة أوروبا الغربية، ذلك إذا أخذنا في الحسبان أيضاً الجغرافيتين الفلاحية والزراعية الصحراويتين.
ويبدو واضحاً أن الرئيس تبون أعلن عن تعديلات إيجابية، إثر رفض الهند قبول ملف الجزائر للانضمام إلى مجموعة "بريكس"، وأكّد ضرورة تنويع مصادر صنع الثروة الوطنية، وعدم الاعتماد على عائدات النفط وحدها، كما كان الحال في العقود الماضية. ومن المنتظر أن يساهم هذا التوجّه، إذا تحول إلى واقع معاش واستمر وتطور، في إعادة النظر جذرياً في السياسات الاقتصادية الوطنية الموروثة من العقود الماضية، والانطلاق في خلق مناصب الشغل لفائدة مئات الآلاف من الشباب، للقضاء على البطالة والهجرة، بحثاً عن الأمن الاقتصادي والاجتماعي خارج حدود أرض الوطن.