كان امتحان الحصول على شهادة الثانوية العامة (البكالوريا) في تونس موضع اهتمام واسع امتزج فيه الإعجاب بنتائج المتفوقين والمتفوقات بالجدل في جملة من الظواهر التي رافقت الحدث.
تثير نتائج الامتحان عادة جدلاً واسعاً نتيجة التمايز بين الجهات في نسب النجاح، إذ تتفوق محافظات الشريط الساحلي على تلك الواقعة في المناطق الداخلية، غرباً.
جدل إضافي أثارته هذه السنة تصريحات غير منتظرة لوزيرة التربية بشأن العلاقة بين ظاهرة الغش في الامتحان وانتماء التلاميذ المتورطين فيها إلى مناطق معينة من البلاد، هي المناطق الحدودية مع الجزائر وليبيا حيث ينشط مهربو السلع والبضائع.
قالت الوزيرة إنه لا يمكن "مقاومة الغش في جهة مفتوحة على التهريب"، وذلك لأن الطفل في مثل هذه الجهات "عوض أن يتربى على التربية والصدق والأمانة، فهو يتربى على التهريب، ويصبح يرى المسألة عادية".
خلال امتحان هذا العام تم تسجيل 821 حالة غش بين التلاميذ الممتحنين وهم أكثر من 140 ألفاً.
لا شيء يثبت صحة نظرية الوزيرة، لكن كلامها طرح سؤالاً آخر ما زال يبحث عن إجابة: من المسؤول عن عقلية التعايش مع "المناطق الرمادية" التي يبحث من خلالها الكثيرون في تونس عن الحصول على مورد رزقهم وتحسين مستوى معيشتهم، ولو كان في ذلك مجازفة بسلامتهم وحتى بحياتهم أو خرق واضح للقانون؟
أنشطة التهريب عبر الحدود هي من بين هذه "المناطق الرمادية" التي طبّع معها الكثير من التونسيين. نتيجة هذه الأنشطة انتشرت الأسواق المختصة في بيع البضائع المستوردة خارج المسالك الرسمية. ولا شيء أدل على "رمادية" الظاهرة من طريق التعامل الملتبسة للسلطات معها. منذ ثمانينات القرن الماضي ساد الاعتقاد بأن السلطات تغض الطرف عن المهربين ما عدا المتورطين في الإتجار بصنفين من الممنوعات: المخدرات والسلاح.
جذور المشكلة مثل حلولها معقدة. إنهاء التهريب يحتاج إلى بناء علاقات بين بلدان المغرب العربي على أساس التكامل الاقتصادي والتبادل التجاري المفتوح. ولكن هذا المبتغى كان ولا يزال بعيد المنال.
يتطلب القضاء على التهريب كذلك إدماج الاقتصاد "الموازي" للبلاد في دورة الإنتاج النظامية حتى تستفيد الدولة من المداخيل الجبائية العائدة لها وتحمي اقتصادها من أنشطة الاستيراد والتصدير العشوائية.
وذلك يحتاج إلى ثورة تلغي القيود البيروقراطية المجحفة وإلى انطلاقة حقيقية للاقتصاد التونسي من أجل تحقيق نسب نمو تسمح بخلق مواطن الشغل الكافية وفرص العيش الكريم للجميع.
من الأكيد أن هناك من تعودوا على الربح السريع عبر التهريب ولن يقبلوا بالخروج من هذه المنطقة الرمادية بسهولة.
عقلية القبول بـ"المناطق الرمادية" تتجاوز التطبيع مع التهريب عبر الحدود، إذ تشمل ممارسات أخرى عديدة.
من بين هذه الممارسات مغامرة آلاف التونسيين بحياتهم على متن قوارب متهالكة من أجل عبور البحر نحو أوروبا، رغم معرفتهم بأنهم بذلك يخرقون القانون. ولكن احترام القانون وحتى الحرص على الحياة يصبحان مسألة ثانوية.
واللجوء إلى "المناطق الرمادية" يعمّق الوهم لدى البعض بأن هناك طرقاً سريعة للكسب والثروة غير العمل والكد، وأن احترام القانون أو الالتزام بالمعايير الأخلاقية ليسا عائقاً أمام ذلك.
هذا الوهم هو الذي يدفع بعض الشباب للاعتقاد بأن الغش في الامتحانات من أيسر المسالك للتفوق والنجاح. يشعر المتورطون بأن الغش مقامرة تنقذ التلميذ الفاشل من اليأس والإخفاق المحتوم مروراً بـ"المناطق الرمادية" حيث يغيب الفصل الواضح بين الأبيض والأسود. الدولة نفسها توحي بأن تصرف التلاميذ يقع في منطقة رمادية عندما تقترح توجيه جانب من التلاميذ الضالعين في الغش إلى مؤسسات التدريب المهني عوض معاقبتهم بالحرمان من الدراسة في المعاهد الثانوية لمدة خمس سنوات كما تنص التراتيب.
والخطر الثاني هو أن "المنطقة الرمادية" عقلية جماعية قابلة للتمدد. واللجوء إليها يبدو أحياناً الحل حتى إن كان لقضاء الشؤون العادية للمواطن. البعض لا يشعرون بأنهم خرقوا قانوناً أو تصرفوا تصرفاً غير أخلاقي لما يرشون الموظف البسيط للحصول على خدمات إدارية قبل غيرهم.
"ثقافة اللاقانون" التي تبرر "الفساد الصغير" أو عدم احترام قانون الطرق والتدخين في غير الأماكن المخصصة له، وغيرها من الممارسات المماثلة، تساهم في إفساد العلاقات الاجتماعية. والأخطر أنها عقلية يمكن أن تمهد لـ"الفساد الكبير" والتطبيع مع الإجرام بأنواعه.
هذه الثقافة تلغي قيمة النزاهة والشفافية في كل دروب الحياة بما فيها الاقتصاد. منذ زمان ساد الاعتقاد في كل بلاد العالم بأن السعي إلى الربح في قطاع المال والأعمال يتضمن البحث عن أيسر الطرق لتخفيض الضرائب المستحقة وتوسيع رقعة الامتيازات الممكنة.
الرهانات المادية تجعل من الصعب أحياناً تحديد الخيط الفاصل بين النطاقين الأبيض والأسود، بخاصة عندما تصبح المعايير الأخلاقية غير كافية ويصبح القانون معياراً قابلاً للتكييف بحسب المصلحة. لكن عندما تصبح كل المعاملات مصطبغة باللون الرمادي تزيد مخاطر الانزلاق نحو مطبات تجعل دولاً بأكملها مصنفة ضمن قائمات سوداء أو رمادية، بحسب مستوى المخاطر التي تشوب ممارساتها المالية.
قد تبدو المنطقة الرمادية بالنسبة إلى المستفيدين منها أحياناً ضرورة اقتصادية وحياتية. ولكنها في حالات كثيرة أخرى ترف يشجع عليه جشع الأفراد وتهاون الدولة.
في الواقع لن تنحسر حدود المناطق الرمادية إلا عندما تنحسر حدود الفقر والبطالة وانعدام الفرص ويتأسس بين المواطن والدولة عقد اجتماعي جديد يرفض الفوضى والتهاون بالقانون.