استنتج مراقبون من نتائج الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية ليل الأحد الماضي، أن عهد الرئيس إيمانويل ماكرون "انتهى"، باعتبار أن غالبية الناخبين قد رفضته مرتين في غضون أسابيع. وبصرف النظر عن مدى دقة هذا التوصيف، فإن الرئيس هو من أطلق النار على عهده، أو أعطى المسدس لآخرين لكي يطلقوا عليه رصاصة الرحمة.
الانتصار الساحق الذي حققه حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف، عندما حلّ أولاً بنحو 34 في المئة من الأصوات، ربما أغوى زعيمته مارين لوبن بالتحدث عن السلطة وكأنها "صارت في جيبها"، كما قال ماكرون. أما جان لوك ميلانشون، قائد تحالف "الجبهة الشعبية الوطنية" لليساريين والخضر الذي نال ما يتراوح بين 28 و29 في المئة، فيبدو أنه سيضع يده بيد خصومه المناوئين لليمين الشعبوي. وقد استجاب للرغبة العارمة التي أعرب عنها ممثلون عن أكثر قوى الطيف السياسي من أجل رصّ الصفوف ومنع اليمين المتطرف من تجاوز "عتبة السلطة" التي بلغها للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية. والأرجح أن التنسيق بين هذه الأطراف وحزب ماكرون، "النهضة"، الذي نال من 20 إلى 22 في المئة من الأصوات، قد انطلق فعلاً لوقف المد المتطرف.
تفصل اليوم عن موعد الجولة الثانية التي يخوضها المرشحون الحاصلون على 12.5 في المئة الأحد المقبل، أيام قد تكون حبلى بالمفاجآت، إذا نجح خصوم اليمين المتطرف في توحيد كلمتهم واستعمال سلاح التصويت التكتيكي لقطع الطريق عليه. وهناك متسع لتدوير ما يكفي من الزوايا فـ"أسبوع في السياسة هو وقت طويل" كما قال هارولد ويلسون، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق.
في غضون ذلك، تتباين التقديرات المستخلصة من نتائج استطلاعات الرأي الأولية، إلا أن بعضها يفيد بأن "التجمع الوطني" سيحتل ما يتراوح بين 260 و310 من النواب. وهذا يعني أن رئيسه جوردان بارديلا (28 عاماً) قد يكون على بعد أيام من تشكيل الوزارة الفرنسية، وربما بأغلبية مطلقة يلزمه لتحقيقها 289 مقعداً. وإلا فسيؤلف حكومة أقلية.
ومع أن صحيفة "اللوموند" شككت بدقة التوقعات المتعلقة بعدد مقاعد المعسكرات الثلاثة، فلا شك بأن "التجمع الوطني" قد حقق قفزة كبيرة عن حصيلته من المقاعد البرلمانية في انتخابات 2022 التي بلغت 88 مقعداً وكانت حينذاك سابقة من نوعها. وبعد قرابة 3 أسابيع من اكتساحه انتخابات البرلمان الأوروبي التي فاز فيها بـ31.4 في المئة من الأصوات مقابل 14.6 في المئة لـ"النهضة"، صار الحزب الذي وعد ماكرون في 2017 بطي صفحته نهائياً، يمسك بقوة بطرف البساط الذي سيحاول سحبه من تحت قدمي الرئيس في 7 تموز (يوليو).
وفيما هرع نحو 65 في المئة من الناخبين المسجلين (49 مليوناً) إلى صناديق الاقتراع، وهي أعلى نسبة للمشاركة في الانتخابات الفرنسية منذ 30 عاماً، لاختيار 577 نائباً في الجمعية الوطنية، وضعت أطراف عدة يدها على قلبها من نجاح متوقع للمتطرفين. فإذا حصدوا في الجولة الثانية أصواتاً تكفي لتشكيل الحكومة بمفردهم، فسينجحون في فرض أنفسهم على ماكرون، في علاقة "تعايش" إجبارية لأنه سيضطر إلى تعيين بارديلا رئيساً للحكومة.
وعندها سيندم على توريط البلاد ونفسه في لعبة الروليت الروسية هذه التي أدت إلى نتيجة معاكسة صادمة. فمارين لوبن ورفاقها يهددون سلفاً بنسف إصلاحاته، مثل رفع سن التقاعد إلى 64 عاماً، بالإضافة إلى التحول إلى الطاقة المتجددة، وخفض عجز الموازنة عن طريق رفع الضرائب. كما قد يعطلون قراراته المتعلقة بدعم أوكرانيا، أو تأخيرها. فحكومتهم ستكون مسؤولة عن تنفيذ القرارات كافة. ومع أن الرئيس مسؤول عن الدفاع والخارجية، يُعتقد أنه لن يستطيع الانفراد بإدارتهما.
وسيكون بوسع المتطرفين أن يطبقوا خططهم المعلنة المعادية للأجانب. مثلاً، ربما يعمدون إلى إلغاء كل الاستثناءات التي تمنع طرد الأجانب، وإلى تجريد أطفال المقيمين الذين يولدون في فرنسا من حق الحصول على جنسيتها تلقائياً عندما يبلغون سن الـ18 كما درجت العادة منذ قرون. كما سيضعون العراقيل في وجه إجراءات لمّ الشمل للعائلات الواحدة.
أما إن لم يفزْ أحد بالأغلبية المطلقة، فالأرجح أن تعمّ الفوضى في البرلمان ويضطرب عمل الحكومة لسنة أخرى، ولن يكون بمقدور ماكرون أن يحلّ الجمعية الوطنية الجديدة قبل تموز 2025.
من ناحية أخرى، تراقب أوروبا والعالم ما يجري باهتمام بالغ. فانتصار اليمين المتطرف في فرنسا قد يُنذر بكوارث عدة خارج حدودها، ولا سيما في بروكسل حيث يحسب الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (ناتو) ألف حساب لهذا الانتصار. وثمة قلق من تأثير سلبي لفوز لوبن بالسلطة على الانتخابات الأميركية في تشرين الثاني (نوفمبر) والنمسوية في أيلول (سبتمبر) والبريطانية الوشيكة.
في هذه الأثناء، لا يزال من المبكر الإحساس بنشوة انتصار "التجمع الوطني" وحلفائه في الكرملين أو مارالاغو، لأن الطريق لا يزال طويلاً، كما يدل الأداء الموفق لمعسكر اليسار وتكاتفه، إلى غير العادة. وقد تعهد كل من الفصيل الليبرالي واليساري سحب مرشحه الذي أتى ثالثاً في أي دائرة انتخابية لتفادي تشتيت الأصوات المعارضة لمرشحي لوبن. مع ذلك، لن يكون من السهل عليهما أن يعملا معاً، فهما على طرفي نقيض بشأن قضايا شتى، كما أن حرب غزة تؤجج خلافاتهما منذ أشهر.
لكن لا بد لهما أن يضعا صراعاتهما جانباً، لإنقاذ الديموقراطية من موت محقق ومنع انزلاق دولة عظمى، وقوة نووية، وعضو دائم في مجلس الأمن، على طريق معاداة الآخر والانغلاق على الذات. إلا أن اتفاق أنصار الديموقراطية على حمايتها في بلاد كانت تعد من قلاعها الحصينة، لن يضخ الحياة في عهد ماكرون الذي انتهى، منتحراً، ولو ظل الرئيس في الإليزيه ثلاث سنوات أخرى!