عندما دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 9 حزيران (يونيو) الماضي إلى انتخابات تشريعية مبكرة، قال إنه يريد "إيضاح الوضع السياسي" في البلاد عقب إحراز حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبن المركز الأول في الانتخابات الأوروبية.
النتائج التي أسفرت عنها الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية لم توضح شيئاً وزادت الأمور تعقيداً بالنسبة لماكرون، بعدما حل التجمع الوطني وحلفاؤه في المركز الأول، بحصولهم على ما بين 34.2 و34.5 في المئة من الأصوات، بينما حصل تحالف اليسار المنضوي تحت لواء "الجبهة الشعبية الوطنية" على ما بين 28.5 و29.1 في المئة من الأصوات. أما معسكر ماكرون فحل ثالثاً بنسبة تتراوح بين 20.5 إلى 21.5 في المئة، في هذا الاقتراع الذي شهد مشاركة كثيفة.
اليمين المتطرف أعلن بلسان مرشحه لرئاسة الوزراء جوردان بارديلا (28 عاماً) أنه لن يقبل بتشكيل حكومة جديدة في حال لم يحصل على غالبية واضحة في الجمعية الوطنية، أي 289 مقعداً، وهذا احتمال ليس مؤكداً على رغم أنه ليس مستحيلاً.
وتالياً سيجد ماكرون نفسه أمام خيار تكليف تحالف "الجبهة الشعبية الوطنية" التي حلت في المركز الثاني بزعامة حزب "فرنسا الأبية" جان-لوك ميلانشون اليساري المتطرف، تأليف حكومة أقلية لن تكون مستقرة بأي حال من الأحوال.
وضعت النتائج فرنسا أمام حقائق جديدة في التوازنات الداخلية، لأنها المرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة التي يقترب فيها اليمين المتطرف من تولي السلطة. وهذا ينم عن سوء التقدير الكارثي الذي أوقع به ماكرون البلاد، بينما كان رهانه أن الفرنسيين سيتّحدون لتحجيم التجمع الوطني واستعادة الوسطيين الزمام.
لا ريب في أن التجمع الوطني سخى بالوعود الشعبوية على الناخبين، على غرار خفض ضريبة القيمة المضافة على أسعار الطاقة من 20 في المئة إلى 5.5 في المئة، وخفض سن التقاعد ومعاودة فرض الضريبة على الأثرياء. لكن المسألة أبعد من ذلك وتعكس وجود عزلة بين ماكرون والفرنسيين العاديين الذين لم يقتنعوا يوماً بقربه منهم.
والأدهى، أن التحول السياسي الجاري في فرنسا له تردداته في أوروبا، ولن يقتصر على الداخل فحسب. وهناك الكثير من التساؤلات التي تعمق عدم اليقين السياسي. ماذا لو نال التجمع الوطني، الحزب الذي أسسه جان-ماري لوبن في السبعينات مع ميول نازية غير خافية، الغالبية المطلقة وكان ماكرون ملزماً بـ"التعايش" مع بارديلا؟ وما مصير المشروع الأوروبي مع تسلم حزب متشكك في جدوى الاتحاد الأوروبي السلطة، ولا تتطابق مواقفه مع مواقف الرئيس حيال قضايا أساسية مثل المالية العامة وأوكرانيا وحلف
شمال الأطلسي؟
ولمحت مارين لوبن مؤخراً إلى أن حزبها في حال تسلم رئاسة الوزراء سيؤكد على مسألة فصل السلطات، مشيرة إلى أن صلاحية الرئيس كقائد للقوات المسلحة وفق ما ينص عليه الدستور هي مسألة "شرفية" فحسب.
أكثر من يراقب التحول الجذري في المشهد السياسي الفرنسي، هو ألمانيا التي تشهد بدورها صعوداً لليمين المتطرف، ومن الطبيعي أن يؤثر وصول التجمع الوطني إلى الحكم في فرنسا، على قوة الأحزاب اليمينية المتطرفة في بقاع أخرى من أوروبا، وفي المقدمة ألمانيا.
وهذا ما يطرح تساؤلاً مشروعاً عن هوية أوروبا مستقبلاً وإمكان العودة إلى الدولة الوطنية والسياسة التي سبقت إنشاء الاتحاد الأوروبي كتكتل اقتصادي يعزز التقارب والاستقرار بين دول القارة بعد حربين عالميتين مدمرتين.
من المهم عدم الفصل بين الانجراف الأوروبي نحو أحزاب تحمل في جذورها أفكاراً نازية وفاشية، وبين الحرب الروسية - الأوكرانية التي أيقظت القارة على أن السلام الذي نعمت به بعد الحرب العالمية الثانية لم يكن إلا وهماً.